خلال السبعين سنة الماضية ــ أى منذ إنشاء الأمم المتحدة حتى الآن ــ دخلت مصر قاعة مجلس الأمن عشرات المرات إما لتحتل كرسى العضوية كعضو غير دائم، وهى من أكثر الدول التى تمتعت بهذه العضوية إن لم تكن أكثرها على الإطلاق، وإما لتجلس على أحد المقعدين المخصصين للدولة الشاكية أو المشكو فى حقها وهما المقعدان اللذان يقعان فى آخر حدوة الحصان التى تتشكل منها مائدة المجلس.
وفى معظم المرات التى ذهبت فيها مصر إلى مجلس الأمن كانت هى الشاكية من عدوان وقع عليها. وكنا نشكو ونبكى ونشرح ونطالب المجتمع الدولى بكبح جماح المعتدى وهو إسرائيل فى معظم الأحوال، إلا فى مرة واحدة كنا نحن المشكو فى حقهم وذلك يوم 6 أكتوبر1973.
كان الدكتور محمد حسن الزيات وزير الخارجية، يجلس فى مقعد مجلس الأمن كدولة مشكو فى حقها، وبعد أن فرغ من إلقاء بيانه نظر خلفه إلى مساعديه وقال يا سلام أخيراً «بقينا دولة معتدية» أخيراً وجدنا إسرائيل هى التى تشكو وتبكى وتطالب بإيقاف عدوان مصر، طبعاً نحن كنا نحارب على أرضنا لطرد العدوان ولكن حتى ولو اتهمنا بالعدوان أو بخرق اتفاق وقف اطلاق نار فيكفى أننا لم ندخل مجلس الأمن هذه المرة من باب مذلة الشاكين.
●●●
مرات كثيرة دخلنا المجلس نشكو بريطانيا قبل جلاء قواتها عن مصر ولنشكو النظام العنصرى فى جنوب أفريقيا نيابة عن الدولة الأفريقية أو فى موضوعات أفريقية وعربية تستحق أن يلفت نظر مجلس الأمن إليها.
إلا أن اجتماع مجلس الأمن التشاورى الذى عقد بشأن الوضع فى مصر يمثل سابقة لم تحدث من قبل فى تاريخ مصر فى الأمم المتحدة، لأنها أول مرة يجتمع المجلس لبحث حالة داخلية فى مصر، فجميع الحالات السابقة كانت نزاعات دولية تكون مصر أحد أطرافها والطرف الآخر دولة أخرى.
طبعا الدنيا تغيرت، فى الماضى لم يكن باستطاعة مجلس الأمن أن يعقد مثل هذه الجلسة حيث كان سيصطدم بالمادة الثانية من الميثاق التى تحظر التدخل فى الشئون الداخلية للدول الأعضاء، إلا أن القانون الدولى الذى يتطور سريعاً وفقاً للممارسة والعرف ما يكسب النصوص المكتوبة تفسيرات جديدة ويعلى بعضها على بعض.. فقد حدثت تطورات كثيرة فى قانون حقوق الإنسان حتى وصل المجتمع الدولى إلى إنشاء المحكمة الجنائية الدولية التى تمثل قمة التدخل فى الشئون الداخلية وكانت الدول الأفريقية هى من دق أول معول فى الجدار الذى يحمى الشئون الداخلية وذلك أثناء مقاومتها لنظام الأبارنايد فى جنوب أفريقيا.
ومع ذلك فلا يجب أن ننزعج كثيراً من جلسة مجلس الأمن فلا يمكن لمجلس الأمن أن يتخطى عتبة الفصل السابع، أى اتخاذ إجراءات أو تدابير عملية.. لأن الوضع فى مصر لا يندرج بأى حال تحت بند تهديد الأمن والسلم الدوليين.
أما الاتحاد الأوروبى فقد يضطر إلى إعادة النظر فى بعض أوجه علاقات التعاون مع مصر تحت تأثير ضغوط الرأى العام لديه ولكن سيكون ذلك إجراء وقتياً يزول عند استقرار الوضع فى مصر.
وقد لاحت بوادر الاستقرار بالفعل واستعادت الدولة الكثير من هيبتها وعافيتها واستتب الأمن بشكل ملحوظ وأخذت الأمور تسير نحو الأوضاع الطبيعية حتى أن المراسلين الأجانب الذين حضروا للقاهرة لتغطية الأحداث بدأوا فى مغادرتها.
ولكن الضمانة الحقيقة لاستمرار الاستقرار وترسيخه دون الحاجة إلى انتشار مكثف للقوات المسلحة والشرطية هو طى هذه الصفحة نهائياً هى تحقيق التوافق الوطنى.
إن التسامح يعد من أهم الصفات التى عُرف بها الشعب المصرى عبر القرون، إلا أن الإعلام المنفلت من كل جانب بث الكراهية والبغضاء تجاه الآخر ووصل الشحن إلى مداه حتى كاد يفقدنا هذه الروح المصرية الأصيلة.
إن الخروج من الأزمة الطاحنة التى نمر بها حالياً لن يتحقق إلا بالتوافق الوطنى بين كل الفرقاء الذين يعيشون فى هذا الوطن دون إقصاء ودون إبعاد ودون استثناء بشرط عدم استخدام العنف أو التحريض عليه، إن السياسة الناجحة هى التى تقوم على أساس الحقائق وليس على ما نتمنى أن يكون، والحقائق هى أن هناك تيار إسلام سياسى فى مصر موجود وسيظل موجوداً، ولا يعنى ذلك الإخوان فحسب، هم فصيل داخل هذا التيار، وإذا كنا ننشد استقرار هذا البلد فلا مفر من التواصل مع هذا التيار بغية الوصول إلى الوفاق الوطنى وحتى لا يلجأ الشباب المنتمى إلى هذا التيار إلى العمل السرى أو إلى الارتماء فى براثن التيارات التكفيرية الإرهابية.
●●●
إننى أنتمى إلى حزب الدستور وأتولى رئاسته المؤقتة حاليا وفكرنا فى حزب الدستور على النقيض التام من أفكار ذلك التيار ولكن التفاهم والتصالح والتوافق لا يتم إلا بين المختلفين فى الرؤى.
وكما قال البرادعى فى كتاب الاستقالة «انه من واقع التجارب المماثلة فإن المصالحة ستأتى فى النهاية».. وجميع الدول التى مرت بمثل ما نمر به لم ينته الأمر إلا بجلوس الفرقاء المتخاصمين معاً فلنتسارع بالطرح السياسى بجوار التعامل الأمنى للتفاهم.. ولنتعامل بجديه من مبادرة الدكتور بهاء الدين فهى خطوة جيدة يمكن البناء عليها ولا ننتظر كما انتظرت دول أخرى وعانت من الدمار والاقتتال ما كان يمكن تجنبه، فالبوسنة مثلاً التى تعرض فيها المسلمون لأبشع عمليات التصفية العرقية على ايدى الصرب، اضطروا فى النهاية أن يجلسوا مع بعضهم وذلك بعد أربع سنوات دامية.. ولبنان بعد 17 ستة والجزائر بعد عشرين عاماً فلماذا ننتظر حتى النهاية؟!.
●●●
وأخيراً فالوفاق الوطنى لا يعنى بأية حال التغاضى عن الجرائم التى ارتكبت فى حق هذا الشعب ولا يعنى التعامل مع من تلطخت ايديهم بالدماء ولو بالتحريض بنصف كلمة، إنما المعنيون هم ابناء هذا الشعب الطيب المسالم الذين لا يزالون يعتنقون فكراً سياسياً مخالفاً وهم الآن قلة بعد أسوا تجربة للحكم مرت على مصر خلال حكم الإخوان.
كاتب ومحلل سياسى