نشرت جريدة الشرق الأوسط اللندنية مقالا للكاتب «حازم صاغية»، نعرض منه ما يلى:
حين تستطيع إيران أن «تمثّل» القدس وفلسطين، فهذا يطرح مشكلة تتعلّق بالمشكلة الفلسطينية وبطرق فهمها. والحال أنّ إيران ليست أوّل عابر سبيل «يمثّل» فلسطين، ولا أفدح من تصدّى لذلك.. يكفى التذكير بأنّ حافظ الأسد استطاع أن يفعل الشىء نفسه، ويبلغ فيه ما لم يبلغه سواه.
جيشه وتابعوه قتلوا من الفلسطينيين عددا فاق العدد الذى قتلته إسرائيل. لقد شقّ منظمة التحرير وأغرقها فى حروب استكملت هزيمتها عام 1982، وأوصلتها، فيما هى تقارب الاحتضار، إلى أوسلو. «تمثيل» الأسد الأب لفلسطين، رغم هذا، لم يَضعف.
بشّار، نجل حافظ، دمّر مخيم اليرموك وظلّ هو الآخر «يمثّل» فلسطين. لقد ورث «تمثيلها» عن الأب، مثلما ورث الجمهورية السورية بأبيها وأمّها.
أين تكمن المشكلة التى تسمح لمن يشاء، وبغضّ النظر عمّا يفعل، أن «يمثّل» الفلسطينيين وقضيتهم؟
هناك العنف طبعا، وقد مورس منه الكثير، لكنْ هناك أيضا ما لا يفسّره العنف. إنّه خلل فى العقول والقلوب.
فالطريقة التى وُصفت بها تلك القضية، جيلا بعد جيل، هى فى أغلب الظنّ، أبرز أسباب المشكلة. ذاك أنّ النظام العربى نزع عن الحقّ الفلسطينى سياسيّته وحوّله إلى مسألة مقدّسة. الهدف كان النجاة بهذا المقدّس من مواجهة ما هو «مدنّس»، كبناء مجتمع ودولة وتحقيق إنجازات فعلية للسكّان. لكنّ المسألة المقدّسة مكتملة ومغلقة بطبيعتها، يستحيل أن يضاف حرف إلى سرديتها الجاهزة ويستحيل أن ينقص حرف من تلك السردية. إذن علينا أن ننضبط بالاكتمال والانغلاق اللذين يكمن الشيطان خارجهما وتقيم الخطيئة.
هذا ما يجعل تعريض القضية الفلسطينية للسياسة أو المراجعة أو النقد أو النقاش الجدّى عدوانا عليها أو خيانة لها. ورغم عدالية القضية، بات كلّ ما يحفّ بها ضعيف المناعة حيال الخرافة، وهذا ما يحيط دوما بالقضايا المغلقة التى تُرفع إلى ما فوق الأرض والتراب: فكلّ قذيفة تُطلق هى «اقتراب» من فلسطين، أو تثبيت لـ«خطّ أحمر» جديد، أو يوم تاريخى سوف تنحنى أمامه ذاكرة المستقبل! وكلّ ضربة كفٍّ ملحمة حتّى لو كنّا نحن من أصيب بها. إنّ ما حصل قبل أيام على الجبهة اللبنانية ــ الإسرائيلية كان سخرية من العقل المتبرّع دوما بأن يُسخَر منه.
لا شكّ أنّ الإحساس العميق بالهزيمة والإحباط رفيق دائم للوعى الخرافى المذكور. هكذا رأينا كيف تعاظم توظيف القضية من منافسات فى السياسات الخارجية، على ما كانت الحال بين مصر والعراق والأردن فى 1948، إلى واحد من الأسس الداخلية التى يُبنى عليها النظام نفسه، على ما بات شائعا مع الأنظمة القومية والأمنية، خصوصا فى سوريا. إلا أنّ النظام الأمنى العربى بتكريسه هذا المعنى، وبتوسيعه عَوَج المكان المعوج فى الوعى السائد، متّن الميل التقديسى المغلق والمكتمل. لقد صار الأخير، بفعل التراكم المصنوع، كونا فكريا وشعوريا مترامى الأطراف.
وبسبب قوّة الخرافة التى ضخّمته، بات المصنوع المقدّس أكبر من صانعه، فرأينا الأغنية تتمرّد على المغنّى قبل أن يعاود السيطرة عليها: حتّى جمال عبدالناصر حين وافق، بعد هزيمة 1967، على مشروع روجرز والقرار 242، وحافظ الأسد حين دخل فى 1976 إلى لبنان، وُصفا بخيانة ما أنجباه.
زاد الأمر سوءا أنّ سياسيى فلسطين بلا لسان. فهم ينجرّون إلى خطاب القداسة بحيث تبدو أفعالهم السياسية ــ وهى بطبيعتها لا تنتمى إلى المقدّس ــ عملا نافرا: ينتجون حدّا أدنى من التفكير والتنظير لأفعال تتطلّب حدّا أقصى منهما. هكذا لا تُسمع منهم إلا شعارات بائسة ومضجرة كـ«سلام الشجعان» تواكب سياسات تفتقر إلى «ثقافتها» بما يسهل التشكيك والطعن بها. أما فلسطينيو إسرائيل الذين يدافعون عن حقوقهم بالسياسة، لا بالخرافة، فممنوعٌ أن يؤثّروا فى جوارهم، وإذا بادر جوارهم وُصف بـ«التطبيع».
ولأنّ القضية مكتملة ومغلقة فهذا ما يخشّبها. هكذا لا تضاف نقطة أو فاصلة إلى ما سبق قوله آلاف المرّات، فيما الذين يرونها قضية سياسية تتحرّك وتعلو وتنخفض، يجدون أنفسهم مطرودين من هذا المحفل ومن تعويذاته.
إلى ذلك، فاكتمال القضية وإغلاقها يحرّمان تعايشها مع أى قضية أخرى. القضية الأخرى تبدو حسما من رصيدها ومنافسة معها. إنّهما أيضا يعيقان تفاعلها مع عالم متحرّك ومتعدّد الهموم.
وهذا الفهم لـ«القضية» يحوّلها أداة بالغة الفعالية فى قتل التعدّد والاختلاف فى البيئات التى تحضر فيها. يحوّلها أيضا حليفا للحاكم الأمنى المستبد، شاءت ذلك أم أبت. وليس صدفة أن يؤدّى درب كهذا إلى الوعى «الحمساوى»، العنصرى والطائفى، ومنه إلى ما هو دائما أسوأ.
الآن، مع الانسداد الذى يواجه الشعب الفلسطينى، بعنف إسرائيل العنجهى والعنصرى، وباحتمالات «صفقة القرن» الخطيرة والظالمة، تغدو إعادة تسييس القضية الفلسطينية وتعريضها للنقاش والمساءلة، والترحيب بالانقسام حولها شأنها شأن كلّ القضايا، هى ما يجدّد إحياءها، وفى الحدّ الأدنى، يوقف قدرة أى كان على زعم «تمثيلها». إنّها اليوم معبودة الجميع ودمية أى كان، وهو ما ينبغى أن يتوقّف.