كان مطحونا أجيرا فأنصفته الثورة وأصبح يمتلك ثلاثة أو خمسة أفدنة، رحمه الله ترك ذرية من بعده يمتلك كل منهم سهما أو قيراطا أو أكثر، وعلمهم تعليما جيدا حتى صار منهم المهنيون والحرفيون وربما يبقى منهم واحد أو اثنان فى مهنة الزراعة قد يدير أحدهما ويرعى باقى ملكيات إخوته وأقاربه ممن هجروا القرية وأقاموا حيث مجال مهنهم وأعمالهم، يوزع الأنصبة من الدخل ويستأمنوه بالعرف والمعروف أو يستكتبوه بالعقد المألوف، وما بين عدم كفاية العائد لسد احتياجات الحياة ومهاترات وجدالات الزراعة والبيع والقوانين واللوائح وظروف السوق والتقاوى والمبيدات وقائمة طويلة مما يملأ حديث جلسة المحاسبة يخرج منها البعض بدعوات لله أن يصلح الحال والبعض بدعاوى تملأ المحاكم وتطيل جدول القضايا وأعدادها، وعادة يبرز السؤال الذى يتخبط بين أرجاء معظم بيوت أصحاب الملكيات الصغيرة والمتناهية الصغر «انت واخد من الصداع ده إيه؟.. انت بتستفيد من الأرض دى إيه غير وجع الدماغ!»، إلى هنا كان لابد أن يجد بديلا تنظيميا مناسبا يخلصه من ملكيته غير المستفيد منها بدلا من الحلول التى اقترحت عليه وأفرزت فى مجملها ظواهر أسهمت فى تعقد مشكلة العقار الزراعى.
العقار هو أى ممتلك أرض أو بناء يدر منفعة مادية، العقار الزراعى هو الأرض الزراعية، والمشكلة ليست فى الزراعة كنشاط اقتصادى فقط، فمثلا الصناعة نشاط له مقومات وعناصر ومن أهم عناصره مصنع وعامل وماكينة، يقابلهم فى الزراعة مزرعة وفلاح وأرض، فالمزرعة هى كيان اقتصادى مقابل المصنع مفترض له إدارة ويعامل معاملة الشخصية الاعتبارية، والعامل مقابل الفلاح الذى له وظيفة وتخصص أيضا، والماكينة مقابل الأرض بصفاتها وقدراتها، فإذا قرر المصنع وقف الإنتاج والاستغناء عن ماكيناته، يمكن أن تباع ولكنها ستباع بنفس صفاتها، فلم نسمع عن مصنع قرر تحويل ماكينة إلى دولاب أو نملية، الماكينة أصل منقول يمكن أن ينتقل بصفاته أما الأرض أصل ثابت لذلك فالتخلص منه يصبح كما لو تم تحويل الماكينة فى المصنع إلى دولاب، عقار أهدر صاحبه قيمته وقدراته الزراعية عندما بنى عليه بينما يمكن أن يجد أرضا تناسب البناء بدلا من إهدار أرض لن يجد مثيلا لها للزراعة، والواقع كان المفترض أن يجد بديلا اقتصاديا يمنعه عن إهدار هذا الأصل الذى يمثل فى مجموعه وعلى امتداده أصلا من الأصول القومية هى أرض مصر التى تنتج غذاءها.
***
كثير ممن «تعدوا على الأرض الزراعية» لا يفهم معنى أنه تعدى على أرضه! «دى أرضى يا ناس اتعديت عليها ازاى؟!»، هؤلاء وكثيرون لا يعلموا أن ملكية الأرض فى مصر ليست ملكية مطلقة وإنما ملكية تصرف مع حق التوريث، فأنت لك التربة تضع فيها أساسات مبناك أو تستخدمها فى الزراعة، أما إذا خرج من أرضك بئر بترول فهو ليس ملكك أو وجدت أثرا أو كنزا فهو ليس ملكك وإنما ملك الدولة، وحتى من ينقب أو يستخرج من محجر مواد بناء فهو يمنح حق الاستغلال لفترة محددة، وهكذا هو الحال منذ قديم الأزل فى مصر، وكانت فلسفة الأقدمين تنبع من قدسية الأرض التى هى كقدسية النيل وغيرها من العناصر التى وهبها الله هذه البلاد، وكان الحاكم أمينا على تلك العناصر يحافظ عليها وينميها ويتباهى بذلك، وحتى بعد أن صار الاقتصاد مهيمنا على فلسفة القدسية للعناصر التراثية الرتيبة العائد، إلا أن هناك حدا أقصى لتلك الهيمنة الرأسمالية على مقدرات العقار الزراعى حين يمس الأمر الأمن القومى حيث توفر تلك الأراضى محاصيل اقتصادية كالقطن وقصب السكر تقوم عليها صناعات، أو القمح الذى يعد مصدر الغذاء الرئيسى فى مصر، وهنا يجب اعتبار نظرة الاقتصاد الفردى فيما يواجهه المالك الصغير أو حتى المستثمر الذى صارت نظرة بعضهم للأرض الزراعية كنظرتنا لغرفة الصالون التى تحتل ركنا هاما من المنزل ولا تعود بالنفع، وكذلك اعتبار نظرة الاقتصاد القومى عندما يتداخل مع التوجه السياسى فيما يراه أمنا قوميا من عدمه.
الواقع هناك عوامل عديدة تشريعية واقتصادية وسياسية تضافرت وأسهمت فى وضع التخلى عن النشاط الزراعى، كما أن كل من تلك العوامل كانت له فلسفته على حدى فتجد لها ما يبررها أو هكذا يستطيعون الدفاع عن وجهة نظرهم، ولكن كان ينقصهم جميعا التنسيق والتخطيط الأشمل والمتكامل، وأزعم أن تنسيقا ما حدث من الوجهة الإدارية التنفيذية ما بين السياسة والتشريع والإدارة التنفيذية، كتنسيق لنفاذ التوجيهات أكثر منه تنسيق فى مستويات اتخاذ القرار، ومن ثم يغيب الوعى بحكمة القرار لدى القاعدة التنفيذية وينفذون أوامر تخلو من مضمونها وحكمتها، وتظهر تأثيرات عدم التنسيق فى مستويات اتخاذ القرار بظهور التضارب بين القوانين والثغرات فى أى منها وبالتالى بعض الاجتزاء فى اللوائح التنفيذية، وتكثر أمثلة ذلك بين قوانين الزراعة وقوانين الإسكان آخرها فيما يتعلق بالتصالح فى المبانى المقامة على أراضٍ زراعية بما تجلبه من شبهة تعارض مع المادة 29 من الدستور والتى تنص فى بدايتها على أن «الزراعة مقوم أساسى للاقتصاد الوطنى، وتلتزم الدولة بحماية الرقعة الزراعية وزيادتها، وتجريم الاعتداء عليها»، فكيف تتصالح فيما جرمته والتزمت بحماية الرقعة الزراعية بل وزيادتها؟ فإذا كان التصالح فى البناء على الأرض الزراعية غير دستورى فما هو البديل وقد قصرت الدولة لفترة طويلة فى حماية الرقعة الزراعية بل وغضت الطرف عن ذلك التناقص فيها تحت وطأة الزحف العمرانى.
من ناحية اقتصادية أشارت إحدى الدراسات الأكاديمية فى التنمية الإقليمية فى مقارنة بين إنتاجية الفدان من أرض طينية مصنفة درجة أولى وبين أرض رملية مستصلحة وبدون تدخل وسائل تكنولوجية إلا فى حدود التكلفة على الأرض الطينية أى المقارنة مع ثبات التكلفة، فكانت النتيجة وصول الإنتاجية السنوية خمسة أفدنة مستصلحة لإنتاجية الفدان الطين الدرجة الأولى بعد سبع سنوات، وأن إنتاجية الفدان الطين فى سنة حققتها إنتاجية الأفدنة الخمسة خلال ثلاث سنوات مجمعة، مما يعنى أن فقد ألف فدان طين درجة أولى يعوضه استصلاح خمسة آلاف فدان صحراء بعد ثلاث سنوات، ويمكن ثباته باستخدام تكنولوجيات زراعية ووسائل رى حديثة وغيرها مما يشكل عبئا استثماريا مضافا أو مستقطع من أوجه استثمار أخرى ربما كانت من الأفضل أن توجه لبناء مدن خارج الوادى والدلتا وحماية الأراضى الزراعية بل وزيادتها، وفى دراسة قام بها الدكتور مصطفى طلبة وزير البحث العلمى ومساعد سكرتير الأمم المتحدة لشئون البيئة سابقا، أثبت أن قنوات المساقى بين الأفدنة فى مصر والتى تستخدم للرى وأيضا لتقسيم الأراضى، وبعد أن زاد تفتيت الملكية الزراعية أصبحت تشكل فى معظمها نحو 40 ألف فدان، مما يجعل من الاقتصاد وحسن إدارة الأرض تحويل ذلك الأسلوب فى الرى وتحديد الملكيات إلى أساليب أخرى أكثر كفاءة وتوفيرا لمياه الرى.
***
وفى تطوير لقوانين الإصلاح الزراعى كان القانون 96 لسنة 1992 الخاص بتنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر فى الأراضى الزراعية، حيث حرر العلاقة التعاقدية بين المالك والمستأجر وأعطى مهلة خمس سنوات لتوفيق الأوضاع والوصول إلى علاقة متزنة بين طرفى التعاقد، وتعددت آثار تطبيق هذا القانون ما بين خروج مئات الآلاف من المستأجرين من أراضيهم الزراعية التى كان معظمهم يسد قوت يومه ومواسمه من ريعها ويعرض ما فاض عنه تجاريا، وكان معظم الملاك يؤجرونها لكونهم ورثوها ولم يمتهنوا مهنة الفلاحة فيها، فارتفعت الإيجارات وتبعتها أسعار المنتجات الزراعية، وتحين كل منهم دخول أرضه حيز كردون المدينة أو صار متاخما لمبانى القرية أو قام بتفتيت ملكيتها على الورق ثم بنى على كل جزء منها الحد الأدنى المسموح له بالبناء على الأرض فقسمها حتى صارت تجمعات عمرانية متناثرة داخل الأراضى الزراعية ما لبثت أن تلاحمت وظهر على خرائط التصوير الفضائى جليا ما تواجهه الأرض الزراعية من تآكل جراء البناء عليها حتى صارت الأراضى الزراعية جزرا بين المبانى بدل أن كان العكس، وفى الأحزمة الخضراء حول المدن العواصم ما كان يلبث تخطيطا ينتهى لتثبيت الحزام الأخضر حتى يصبح الواقع مختلفا وقد انفك الحزام واختفى الأخضر وصار مبانٍ على طوبها الأحمر.
هناك تعدٍ على الأرض الزراعية يقابله امتداد عمرانى، فهل هى مشكلة تآكل أرض زراعية أم مشكلة مد عمرانى، الظاهرة تعدٍ على الأرض الزراعية لكن المشكلة هى نقص أراضى البناء وقصور فى المنظومة العمرانية أدت إلى فراغ فى المستوى الطبقى وفراغ فى النوع الفئوى إلى جانب نقص شديد فى حجم المعروض، إن أردنا بالفعل وقف التعدى على الأرض الزراعية علينا بتوفير أراضٍ للبناء، وإن أردنا وقف الزحف العمرانى على الأرض الزراعية علينا بحماية الأرض بتثبيتها ليس بالتوجيه وإنما بفصل الإدارة عن الملكية خاصة فى الأراضى الزراعية المتاخمة للعمران القائم أو التى تقع داخل كردونات المدن وأحوزة القرى، لتكن هناك مجمعات زراعية يتشارك فى ملكيتها ملاك الأراضى داخل الكردون أو الحيز بأسهم طبقا لملكية أرضه مع تطوير دور التعاونيات الزراعية التى صارت منافذ تقاوى ومبيدات، ومزامنة ذلك مع إصلاح إدارى يدعمه تشريع وتنسيق متكاملين ما بين إتاحة الفرص البديلة للمد العمرانى وإخضاع الأراضى الزراعية على تفتيتها الحيازى لإدارات مجمعة تحت شعار للفصل بين الإدارة والملكية فى الأطيان الزراعية.
استشارى التخطيط العمرانى