أظن أن بعض الأحياء تمر بتجربة فريدة فى علاقتها بصناع القرار، وهو أن لسكان الأحياء «صوتا» عاليا ويعملون بجد ونشاط للحفاظ على حيهم وتراثه وسآخذ حيين كمثال وهما مصر الجديدة والزمالك.
الحى الأول سكان مصر الجديدة كانوا ممنونين لتوسيع الشوارع وبناء عدة كبارى وتفادى النقاط المزدحمة مثل الكيلو 4,5 الذى كانت تقف فيها السيارات فى ساعة الذروة أكثر من ساعة فى مسافة قصيرة من مدخل مصر الجديدة ولكن الأثر الجانبى هو الخطر المحدق بالذين يريدون عبور الشارع الواسع وجرت عدة حوادث خطيرة فالضغط الشعبى من السكان دفع الحكومة ونواب البرلمان للتحرك وإنشاء كبارى علوية للمارة وقد كانت بمساهمة بعض البنوك فى المنطقة، ولكن لتوسيع الشوارع حصلت مجزرة للأشجار التى لم يتم إعادة زرعها مجددا فى أماكن أخرى وهذه الأشجار النادرة قديمة قدم قصر البارون إمبان نفسه أى أكثر من مائة عام. هذه المذبحة أيقظت لدى السكان الحس الجمالى والخوف على أن يكون حيهم مجرد بلوكات من العمارات والمطالع فى الكبارى الأسمنتية التى تفتقد الناحية الجمالية.
لا أعرف لماذا لا يتم الاستعانة بمهندسين وفنانين لوضع لمسات جمالية تتماشى مع طراز الحى. لذا بمجرد «شم رائحة» مشروع كوبرى يمر فوق شارع صلاح الدين حتى منطقة ميدانى الإسماعلية وسفير حتى هب كل السكان ضد هذا المشروع الذى سُمى فى وسائل التواصل الإجتماعى والإعلامى «كوبرى البازيليك» الذى كان من المزمع أن تمر مطالعه ومنازله من جوانب هذه الكاتدرائية القديمة نسبيا التى بنيت عام 1908 والتى كانت ستؤدى إلى تشويه المنظر تماما رغم عدم احتياج هذه المنطقة لكوبرى بل الاحتياج إلى التنظيم والتواجد المرورى لمنع الصف الثانى والثالث من ركن السيارات فى جانبى الطريق وهذه المرة استجابت القيادات للضغط الشعبى وألغى المشروع.
حاليا هناك معركة جديدة تخص حديقة الميرلاند الجميلة والكبيرة والأثرية حيث خاف السكان من مذبحة جديدة للأشجار النادرة فى هذه الحديقة ،إذ بدأ بعض إرهاصاته فى أشجار الشوارع الجانبية مثل شارع «السبق» وشارع نهرو التى هى من أجمل مناطق مصر الجديدة وأكثرها رقيا، فهناك من فكر ببناء نصب تذكارى فى الحديقة ولكن مرة أخرى هب سكان الحى ودخلوا فى مباحثات مع القيادة المدنية ، لتعديل المشروع ووقف تدمير حديقة الميرلاند المتنفس الكبير فى مصر الجديدة والتى إذا تم تخطيطها تخطيطا جيدا تكون مركزا جاذبا للسكان والسياح وذات ربحية تجارية عالية.
الحى الثانى، وهو حى الزمالك ففى واقعة أولى وهو مرور مترو الإنفاق فيه سبب توترا لسكان الحى الهادئ الراقى والذى يحتوى على أغلب السفارات الأجنبية والمتاحف والفنادق والأندية ولكن فشلت كل المحاولات على مدى السنين، ولكن هذا الفشل أيقظ الإدراك الشعبى ،عندما أعلن عن مشروع «عجلة الزمالك» والذى كان من المفترض تركيبها فى حديقة من أجمل الحدائق التراثية للقاهرة وهى حديقة الأندلس ومع الضغط الشعبى، تم إلغاء المشروع أو التفكير فى مكان آخر، وكانت حجة المقيمين عليه أن عجلة كبيرة تسمح لراكبها أن يرى جمال القاهرة أسوة بعجلة لندن «التى هى أخرى قميئة المنظر أمام المبانى التراثية للندن مثل مبنى البرلمان و«لندن بريدج» ، وحاليا هب السكان مرة أخرى حفاظا على «حديقة الأسماك» التى أنشئت أيام الخديوى إسماعيل والتى وصلت إلى حالة يرثى لها ولكن وعد وزير الزراعة والذى زار المكان بإعادة تخطيطه بعد أن جرت أخبار بتحويل الحديقة أو جزء منها إلى جراج وما إلى ذلك.
لا ننكر أن سكان هذين الحيين من الناس «الواصلة» والمتعلمة تعليما رفيعا ويسافرون إلى الخارج باستمرار فمنهم وزراء حاليون ووزراء سابقون وصحفيون ومهندسون وسفراء ونواب لمجلس النواب والشيوخ واستطاعوا أن يوصلوا صوتهم للقيادات التى فى الغالب تلبى وتتفهم قلق سكان تلك الأحياء، ولكن لا ننكر أن على الدولة والناس استثمار هذا الجو من التفاهم لكى يعم فى كل أحياء مصر ،فيشعر سكان الأحياء أن لهم «قولا» فى حيهم ومشاريعه واللمسات الجمالية فيه، أليس هذا تطبيقا عمليا للديمقراطية والمشاركة الشعبية فى اتخاذ القرارات؟.