مشهد: امرأتان فى غرفة فى مستشفى للولادة فى صباح باكر فى العاصمة. سيكون يوما شتائيا مشمسا لكن الوقت بدرى والضوء يدخل من النافذة باردا مسطحا.
امرأتان تنسلّان فى صمت من العنبر، تنزلان الدرج بدلا من استعمال الأسانسير، إحداهما تحتضن مولودة ملفوفة بعناية فى طبقات من الصوف، ثم البيكة، ثم القطن، والأخرى تحمل شنطة بلوازم المولودة. خارج المستشفى، تستقلان السيارة الصغيرة، الأم تحمل رضيعتها، وأختها تقود السيارة.
وحين عدنا، بعد حوالى أربع ساعات، كانت الدنيا واقفة على رِجل. أمى وخالتى ــ الله يرحمهما ــ بهدلونا: فيه واحدة تبقى والدة امبارح تقوم من السرير، وتاخد البيبى، وتركب عربيات، وتروح بيها طُرة؟ تروح بالبيبى زيارة سجن؟ بهدلونى أنا أكتر طبعا على أساس «طب أختك مجنونة، وانت تطاوعيها ليه؟» لكننا كنا جميعا نعرف ان الكلام مجرد تنفيس عن قلقهم الشديد، تحصيل حاصل، لأن ليلى سويف متى قررت شيئا، فالشىء سيحدث، بِك أو بدونك سيحدث.
كانت هذه الزيارة، لزوجها أحمد سيف الإسلام، السجين السياسى فى طرة، لتُريه «مُنى» وليدة الأمس، زيارة أيضا للاحتفال بالنصر. كانوا قد خطفوا سيف فى خريف عام ١٩٨٣، وأخفوه هو وزملاءه. دارت ليلى تبحث عنهم، تواجه عنف وبيروقراطية الداخلية قسم قسم وسجن سجن. وجَدَتهم أخيرا فى سجن القلعة، وكانوا يتعرضون لتعذيب شديد. باختصار، نجحت فى أن تحررهم من السجن. عملوا لهم قضية تنظيم مسلح لقَلْب نظام الحكم وحُكِم على سيف بالحبس خمس سنوات. وحين صُدِّق على الحكم فى ربيع ١٩٨٥ هرب سيف وليلى ــ وعلاء الصغير طبعا معاهم ــ واختبأوا خارج القاهرة لمدة شهر إلى أن تأكدوا من حمل ليلى فعادوا إلى القاهرة وقام سيف، ومعه ليلى، بتسليم نفسه. وهكذا هزمت، إلى حد ما، تأثيرهم على حياتها الشخصية فأتت بالطفلة التى تمنتها، ابنة لها ولسيف، وأختا لعلاء ــ تعمل الآن على تحريره وتحرير كل المدنيين المحبوسين فى سجون العسكر.
مشهد: ليلى حائرة تائهة. أول مرة فى التاريخ أجدها حائرة تائهة. علاء راح يشوف أصحابه المحبوسين على خلفية حملة التضامن مع قضاة مصر، فالأمن أخده وحبسه. برضه على ذمة التحقيق زى دلوقتى. وجددوا له الخمسة عشر يوما ثلاث مرات. لم تقو على الذهاب إلى المحكمة، ولا على زيارته فى طرة. صامتة حائرة. تؤنبها مربيتنا العجوز فى الجاية والرايحة، «ضَيَّعتى الواد. مش انت اللى علمتيه؟ كل يوم مظاهرات مظاهرات. حد يقدر ع الحكومة؟ أديكى ضَيَّعتيه»، فتسكت. تسهر لتضع الامتحانات ثم تذهب إلى الكلية فى الصباح لتسليمها فتجد انها نسيتها فى البيت فتعود. تنسى وتنسى. ليلى المنجِزة، المتحدثة، المتحدية، العملية، الضاحكة، تصمت، وتبطئ، وتنسى. إلى أن عاد.
اليوم، فى هذه المحنة، أراها مختلفة. ذَهَبَت إلى سجن باب الخلق، ثم إلى جلسة الاستئناف فى س ٢٨ يوم الخميس. حين سمحوا لنا بالدخول وجدنا علاء فى قاعة محكمة، مع ثلاثين شابا محبوسين أيضا على ذمة التحقيق فى أحداث ماسبيرو. أجلسنا منال إلى جانبه وكان إلى جانبه الآخر المخبر المربوط معه بالكلبشات. حديث علاء المباشر والسريع كان عن بقية الشباب، تعريفنا بهم، وبظروفهم، وما يحاك لهم، وما يجب عمله من أجلهم وتوصيلهم بالمحامين. بعد دقائق جاء الأمر بنقلنا، ووضعونا جميعا فى قاعة محاكمة أخرى وحدنا، أرْحَب وذات نوافذ أوسع، خلعوا الكلبشات من يد علاء، وانسحب الجنود والمخبرون إلى الصفوف الأخيرة فى القاعة، فأصبح بالإمكان أن تجلس منال إلى جانبه اليمين وليلى إلى جانبه اليسار. سناء وأنا أمامهم. أحمد سيف يروح ويجئ بيننا وبين المحامين. ليلى تلتصق بابنها، يدها عليه طول الوقت. أحيانا تضع رأسها، للحظة خاطفة، على كتفه. حلقوا شعره ولكن بحِنِّيَّة، سمحوا له أن ينتقى الحلاق، وإلى حد ما الشكل ــ على أن يكون قصيرا. النتيجة ان شكله فعلا جميل. يتكلم عن الأحوال، عن تفسيره لما يحدث، يسأل عن الأخبار. إخواته مجهزين له بهريز الأخبار فى مصر والخارج. يطلب منى توصيل رسالة للدكتور عمرو حلمى وزير الصحة. ها هى: «يا دكتور عمرو، سجن الاستئناف فى باب الخلق فيه ناس مصابة. والعناية الطبية على قدها جدا، مسكنات وممكن مضادات حيوية. وبالتالى الإصابات هتتفاقم وهيبقى لها آثار جانبية، وتتطور، وتؤثر فى المصاب بقية العمر ــ وكل هذا ممكن تجنبه لو العناية الطبية فى السجن تكون جادة وسريعة».
تدخل هيئة المحكمة فنقف جميعا. يجلسون فنجلس. يُطلب من علاء أن يتقدم فيقف أمام المنصة، على جنب. يتلون قائمة الاتهامات ــ التى تبدو أعجب حتى من المعتاد ونحن نسمعها فى هذا السياق الرسمى، وعلاء، بشخصه البرىء منها، أمامنا. يسأل القاضى عن المحامى فيتقدم عشرون محاميا ومحامية ــ عديتهم عشرين فعلا ــ من الطيف السياسى كله. يترافع خمسة منهم، آخرهم أحمد سيف، ثم يعلن علاء بهدوء أن لديه ما يقوله، يخاطب هيئة المحكمة ويتكلم بثقة وأدب وإيجاز فيقول أنه سبق أن احتُجِز ــ عام ٢٠٠٦ وهو يزور زملاء يحاكموا لتضامنهم مع القضاء ــ واتُّهِم بنفس نوعية الاتهامات الفضفاضة التى يُتَّهَم بها اليوم، ووقتها احتجز خمسة وأربعين يوما، وليس هناك شك ان هذا الاحتجاز كان للتنكيل به. وهو يشعر بتشابه الحالة اليوم، وبأن احتجازه الآن ما هو إلا للتنكيل به، فإلى جانب الطابع الفضفاض للتهم، والأدلة التى ساقها المحامون لتوضيح أنه اختار أن يواجه لا أن يهرب وليس هناك أى داعى لحبسه احتياطيا، يضيف أن زوجته، الموجودة بالقاعة، حامل، وموعد ولادتها قد اقترب وهو بالطبع يريد البقاء إلى جانبها. يكرر أن حبسه على ذمة التحقيق هو استعمال القانون بشكل ملتف للتنكيل به.
شخصيا، أتصور أن القاضى ــ وقد بدا محترما بجد وكان يكتب ملحوظات ــ أتصور أنه سوف يضع المطرقة على المكتب، وينظر فى عينَىّ علاء، ويقول إذهب يا بُنَىّ، أنت حر طليق، افعل ما بدا لك وربنا يكَتَّر من أمثالك. لا يفعل طبعا، يرفع الجلسة وتنسحب هيئة المحكمة للتداول ونعود نحن للجلوس والتحلق حول علاء. ويدخل ضابط شاب يتهم سناء بأدب بأنها مهرّبة محمول وترسل «تغريدات» من داخل س٢٨، فتقول له سناء أنها لا تُغَرِّد وأنه ملخبطها فى منى أختها المُغَرِّدة دائما والموجودة الآن فى مؤتمر صحفى حول أحداث ماسبيرو. يقتنع، لكن يبقى السؤال: من يرسل المعلومات من هنا إلى منى؟ لا نستطيع أن نساعده. نجلس معا فى اجتماع عائلى شبه عادى ــ فيما عدا التصاق ليلى بابنها. يأتى لنا المحامون بالشاى وكم من البسكوت، وفجأة وكأن الصورة تتبعثر أمامك، بعثرة مباغتة وأصوات عالية وحين تمر الثوانى فتعود وتجمع حواسك ترى علاء يُقتاد بعيدا، والكلبشات عادت إلى يده، والصيحات «ياللا ــ ياللا بسرعة ــ من هنا!» ونحن غير متأكدين ماذا علينا أن نفعل ثم نحسم أمرنا ــ أمه وأخته وزوجته وأنا ــ فنجرى وراءه، ويبدو لنا من الأساسى أن نعيد إليه الكتاب الذى كان يقرأه فنتلاقف الكتاب «كتاب علاء! كتاب علاء!» إلى أن يصله. نجرى جميعا وراء علاء والمخبرين والجنود الذين يسرعون به فننزل الدرج، ونخرج إلى الساحة ويدخلونه عربة الترحيلات ويسحبون الترباس من الخارج فنقف حولها نقول «علاء علاء انت سامعنا؟ إحنا هنا. مش هانمشى. والشباب واقفين برة فى الشارع ابقى بص عليهم» ثم يخرج بقية الشباب المساجين، بالكلبشات، وقد جددت مدة الحبس ١٥ يوما لكل منهم، ويقفون فى الحوش، ونستطيع أن نختطف بعض الكلمات معهم: «أنا أساسا مش عارف أنا متهم بإيه»، «ماتنسوناش»، «إحنا مالناش حد برة غير الجماعة بتوع لا للمحاكمات،» «معاكوا ستيكرز؟» وفجأة أيضا «خلاص المبنى هيقفل ــ فضى المبنى ــ اتفضلوا كلكم ــ برة لو سمحتوا ــ برة ــ برة!» من داخل عربة الترحيلة علاء يطلب منا أن نجد طريقة لإخطاره بقرار القضاء العسكرى. ونحن فى الشارع، وبعد رحيل العربة، يخبرنا المحامون برفض الاستئناف.
الترحيلة لا تصل إلى سجن باب الخلق، ولا نعرف أين ذهبت، ويمر علينا الليل ولا نعرف إلا الجمعة بعد الظهر انه انتقل إلى طرة ــ وكان قد طلب هذا لأن ظروف طرة أحسن.
وفى المساء تخبرنا ليلى أنها سوف تضرب عن الطعام بدءا من الأحد صباحا، فلا عيد لها بدون علاء.
ليلى حسمت أمرها وأخذت المبادرة. تقوم بفعل تليق خطورته بجسامة الحدث وبحجم مشاعرها. مشاعرها تتمحور حول ابنها لكنها لا تقتصر عليه، فهى تشمل الشباب المحبوس والمقتول والمنكل بهم، وهى تشمل الثورة كلها، والبلد.
حاول البعض أن يكلمها عن الإستراتيجيات والتوقيتات، والقلب والعقل، لكن قصة «القلب» و«العقل» قصة غير موجودة أساسا عندها ــ فالقلب والعقل شىء واحد: كالمصرى القديم، هى تشحذ «قلبها المتنبه» دائما. تقول صديقة «لما تبقى السما خلاص هتقع على الأرض، تيجى ليلى سويف تسندها». هى الآن فى محاولة لأن تمنع شرا كبيرا عن ابنها وعنّا ــ تسند السما حتى لا تقع على الأرض. ولم يعد المجال مجال نقاش، بل مجال مساندة وتمكين ودعم وتفعيل لمحاولتها الكبيرة.