كان فلاسفة الثورة الفرنسية على حق عندما كانوا يعتقدون أن على النظام السياسي الديمقراطي أن يَحذر أحيانا من سلطة الشعب. لقد تذكر الفرنسيون هذه المقولة عندما علموا بنتيجة الاستفتاء الشعبي فى سويسرا وانتقدوا ذلك البند فى دستور جارتهم الفيدرالية الذى يعطى صلاحية لفئة من الشعب لكى يقترح استفتاء شعبيا دون أن تبادر بذلك أى جهة رسمية. لقد صوت السويسريون بأغلبية ساحقة (ويا للعار!) من أجل منع بناء مآذن جديدة فى بلدهم.
فى البداية ظهرت أصوات غاضبة تتهم السويسريين بأنهم عنصريون طوال عمرهم. لقد كانوا يساعدون الألمان النازيين على مطاردة اليهود» متناسين دورهم ـ هم الفرنسيون ـ فى صك قوانين معادية للسامية أشد من القوانين الألمانية نفسها، متناسين أيضا أن لا مآذن فى فرنسا عدا تلك التاريخية القديمة مثل مسجد باريس أو مارسيليا، ثم جاء استطلاع رأى فرنسى ليظهر أن الرأى العام الفرنسى يعارض بناء مآذن وحتى مساجد بنسبة 40٪.
أظهرت قضية المآذن انقساما عند الفرنسيين على مستويين. الأول هو انقسام تقليدى بين النخبة الثقافية والسياسية ذات ميول يسارية والتى تنادى بانفتاح المجتمع على التعددية الثقافية والدينية من ناحية والنخبة اليمينية التى تغازل اليمين المتشدد وتشكل قوة ذات ثقل انتخابي لا يستهان بها. تلاقت قضية الاستفتاء السويسري مع إطلاق حملة حول الهوية القومية أرادها الرئيس ساركوزى ليجعل الحزب الحاكم منها محور الانتخابات المحلية المتوقعة في مارس المقبل.
ولكن هناك مستوى آخر لهذا الجدل. فالخلاف السياسي الثقافي هذا ينحصر في النخبة. أما الانقسام الآخر فهو بين النخبة من ناحية وعامة الشعب من ناحية أخرى حيث الرفض للأجانب عموما وللإسلام بشكل خاص أوسع بكثير مما هو عند النخبة ويمتد من اليمين إلى اليسار يعود هذا الرفض إلى أسباب عديدة وشديدة التعقيد تتعلق بخيال الشعوب المكون عبر التاريخ وبالواقع المعيشى للفئات الاجتماعية المختلفة.
الأهم من هذا الجدل هو أنه يجعل من قضية بالغة الخطورة موضوعا للمزايدات وكسب الشعبية وحصد أصوات الناخبين. انه فى الواقع تحدٍ تاريخي واختبار وجودي يحتاج إلى إدارة حكيمة من قبل النخبة السياسية وهنا يكمن التقصير بل الفشل الحقيقي، فمن اليمين إلى اليسار لا أحد من الساسة يجرؤ على مصارحة الشعب بالقول علنا إن أوروبا تحتاج إلى هجرة واسعة بمعدلات تتجاوز الثلاثين وربما الخمسين مليونا فى العقدين المقبلين لكى تستمر فى نمط النمو الاقتصادي المطلوب للحفاظ على مستوى الثراء والرفاهة الحالى، وأن عدد العاملين بالنسبة للمتقاعدين يتناقص بسرعة، وأن العبء على جيل الأربعين والخمسين يتفاقم لتأمين أجر التقاعد والنفقات الصحية للمسنين. هذا الجيل نفسه الذى يدخر طالما هو يعمل بينما يعلم أن لا ضمانات له فى أن يحصل على نفس الأمان عندما يصل إلى سن التقاعد إذا ما ازداد عدد العاملين فى الاقتصاد الأوروبي.
هذا هو الرأى العام الذي يركز على الفوارق الثقافية دون أن يلفت أحد نظره إلى أن مصالحة الحيوية أصبحت مرتبطة بدخول أعداد متزايدة من العمال الأجانب. لا يستطيع أي من الذين تسلموا مسئوليات فى إدارة الشئون العامة أن يدعى أنه لم يكن يعلم بهذه الحتمية. فلا شك أن النخبة السياسية يمينية كانت أو يسارية، فى فرنسا وعدد من الدول المجاورة بنسب متفاوتة يتبعون سياسة النعامة ويعيشون فى نفى الواقع ويتصرفون بشكل غير مسئول فى إدارة هذا التحدي التاريخي، فهو نتيجة عجلة التاريخ للبشرية التى تحرك سكانها من قارة إلى أخرى كلما ظهر فراغ سكانى ليعيد التوازن فى إعادة توزيع سكان العالم حسب الثروات.
إذا سئل المسلمون عن أولوياتهم ربما نجد أن غالبيتهم لن يطالبوا بالضرورة بإقامة مآذن في كل قرية ومدينة ولكن لا أحد يجرى استفتاءات لدى المسلمين. إن همومهم عديدة ومطالبهم عملية قبل كل شيء فهم أتوا أولا ليحصلوا على فرص تعليم وتدريب مهني وعمل لتحسين أوضاعهم المعيشية يطمحون أن ينجح أولادهم ليؤمنوا لأنفسهم وعائلاتهم حياة كريمة. الشباب يطمحون إلى أن يستدعيهم صاحب العمل لمقابلات من أجل الحصول على وظيفة حتى لو كان اسمهم أحمد ومصطفى ويقيمون في الضواحي التي تعتبر ساخنة فهم حاصلون على شهادات عالية من أرقى الجامعات أحيانا ويعانون رغم ذلك من تمييز (ولا نقول اضطهاد).
يضحك إبنى وأصدقاؤه عندما يبعث عمر أو كريم سيرته الذاتية (27) إلى عشر شركات ولا يدعى إلى أي مقابلة ثم يغير اسمه على نفس السيرة الذاتية إلى جاك أو روبير فيجد نفسه مطلوبا من عدة شركات.
ويغضب إبنى إسماعيل العربي الملامح من مطالبة الشرطي لهويته بمعدل مرة في الشهر بينما لا يطلب من شقيقه رامي الأزرق العينين هويته مرة واحدة في أربع سنوات.
المطلوب أولا أن يعطى هؤلاء الشباب الفرص التي يستحقونها حسب كفاءاتهم وأن يعي المسئولون السياسيون أن النقاش حول القيود الثقافية (الحجاب والبرقع والمآذن) يجب أن يرافقه كلام عن ضرورة إجراءات عملية لمكافحة التمييز في العمل والسكن والمدرسة والشارع.
فكيف يمكن لخطاب عن الهوية القومية أن يلقى تفهما لدى الجاليات المسلمة إذا كان أعضاؤها يعانون من تمييز في حياتهم اليومية؟
لا يستطيع مجتمع أوروبي أن يتوقع اندماجا ثقافيا دون الاقتصادي والاجتماعي من خلال مكافحة التمييز بكل أشكاله.
هذه معركة طويلة الأمد قد تحتاج إلى عدة عقود ولكنها معركة حاسمة ليس بالنسبة للجاليات المسلمة والأجنبية عموما فحسب وإنما للمجتمعات الغربية نفسها ولقيمها الديمقراطية فإما أن تتلون بثقافات أخرى أو تتراجع فيها الديمقراطية.