تبذل مصر سواء على المستوى الرسمى للدولة، أو على المستوى الشعبى للأغلبية من أبناء هذا الوطن جهودا حثيثة مخلصة لتهدئة روع الملايين الذين هزتهم أحداث مذبحة الإسكندرية، سواء أكانوا أقباطا أم مسلمين.. تأكيدا لمعانى التضامن والوحدة الوطنية.. حتى أن الذين لم يسبق لهم أن عرفوا الطريق إلى الكاتدرائية المرقسية، عرفوها ليلة عيد الميلاد.. ظنا من الكبار أنهم بذلك غسلوا أيديهم من مسئولية الحادث وتداعياته. وتأكيدا من بسطاء الناس للحاجة إلى التواصل والتلاحم فى هذه الظروف الصعبة!
وفى مقابل ذلك فإن مذبحة الإسكندرية فتحت الباب أمام أصوات ومداخلات خارجية أوروبية تستهدف استغلال الموقف من بعض دول يفترض أنها تعرف حقيقة ما يجرى فى مصر وعلى علاقة طيبة بقياداتها. وقد طالبت بعض هذه الأصوات بوقف المعونات الأوروبية وعدم التعاون مع مصر. واتخذتها دول أخرى ذريعة للتغطية على أساليبها التمييزية وأطماعها الاستغلالية فى أفريقيا والعالم. وفى التستر على الإجراءات القمعية والاضهطاد الذى تمارسه ضد الأقليات المسلمة فى أوروبا.
وربما كانت تصريحات الرئىس الفرنسى ساركوزى الذى حذر فى لهجة قاطعة من مخطط تطهير دينى يستهدف المسيحيين فى الشرق الأوسط فى مصر والعراق.. من أكثر التصريحات التى تحمل قدرا كبيرا من التحامل والاثارة. وتابعته فى نفس الاتجاه إيطاليا على لسان بيرليسكونى. وانعكس ذلك فى رسالة بابا الفاتيكان بنديكت السادس عشر الذى طالب فيها بحماية المسيحيين الأقباط من الاضطهاد. وقد رد عليه فى نفس اللحظة شيخ الأزهر وطالبه بالاعتدال والمساواة فى نظرته للأديان بدلا من إثارة الضغائن والأحقاد بين اتباع الديانات المختلفة.
وقد جاءت تصريحات وزير الخارجية أحمد أبوالغيط فى مكانها وزمانها للرد على موقف الاتحاد الأوروبى بصفة عامة، حيث تتبلور جهود خاطئة متحيزة لتوجيه مبادرة بشأن الحريات الدينية فى ضوء حادث الإسكندرية.
وبالطبع فإن السكوت على كثير من مواقف التحامل الأوروبية التى سكتت على طرد المسيحيين من العراق فى ظل الوجود العسكرى الأمريكى والأوروبى. ولم تنبس ببنت شفة فى التنديد بعمليات التهجير المنهجية التى يرتكبها الاحتلال الإسرائيلى ضد الفلسطينيين.. ولا بتهديد السلطات فى هولندا وبلجيكا بطرد الجالية المسلمة والتدخل فى إقامة وبناء دور العبادة فى سويسرا.. كل ذلك قابلته مصر والدول العربية والإسلامية بالإغضاء والتسامح. وربما كانت فضيحة تطويق جماعات الغجر وارغامهم على النزوح من فرنسا إلى رومانيا وبلغاريا، دون أن يشعر الاتحاد الأوروبى بما ينطوى عليه ذلك من انتهاك لحقوق الإنسان، وتمييز ضد فئات معينة استقرت فى أوروبا منذ مئات السنين، لدليل على ازدواج المعايير، وخدمة لمواقف تنسف أسس التعايش وتقضى على مبدأ التنوع الثقافى وتعدد الهويات.
غير أن هذه الضغوط لا ينبغى أن تدفع بسلطات الأمن إلى التسرع فى إجراءات غير مدروسة تضاعف من حالة الاحتقان والتوتر. مثلما حدث فى حالة الشاب الذى قيل انه «سلفى» واعتقلته السلطات للتحقيق معه فى حادث الإسكندرية، ومات بين يدى البوليس نتيجة التعذيب بحجة أنه من نشطاء السلفيين الذين نظموا مظاهرات الإسكندرية للافراج عن زوجتى القسيسين. ومثلما حدث فى الرأس المجهول المرمم التى تسابقت الصحف إلى نشر صوره، واتضح أن الاستدلال من فحصها على الشكل التقريبى لوجه الانتحارى مرتكب الحادث، لم يخضع للاسلوب العلمى كما يقول خبراء الطب الشرعى.
تكرار النشر عن مثل هذه المحاولات الفاشلة، يساعد على زيادة البلبلة وإضعاف الثقة بكفاءة الجهود الأمنية. وفى مثل هذه الحالات فإن التزام الصمت إلا عما يثبت يقينا صحته، يكون أفضل من إطلاق تصريحات متضاربة واتهام أبرياء بدون دليل.
بقى أن نقول إن الإغراق فى تقسيم الشعب المصرى ما بين سلفى وإخوانى وقبطى ووطنى ثم سنى وشيعى، أصبح ينذر بخطورة بالغة. ويضاعف من أسباب الفتنة والتوتر!!