فى أوائل الثمانينيات من القرن الماضى كنت أعمل كوزير مفوض بسفارتنا فى وارسو وكان لى صديق مستشارا بسفارة النمسا يدعى «نيكل».. وقد أبلغنى ذات يوم أن سفيره غضب منه وأنبه بشدة عندما علم أنه أبلغنى أن السفير النمساوى سبق له الخدمة فى سفارة النمسا فى إسرائيل وكان من ضمن ما قاله السفير له: «لقد أفسدت علاقاتى بالسفراء العرب»..
إلى هذا الحد كانت الدول تراعى المشاعر العربية وتحسب للعرب شيئا من الحساب.
وعندما قام أحد المختلين اليهود بإشعال النار فى منبر المسجد الأقصى فى نهاية الستينيات، ارتج العالم الإسلامى بأسره وانعقد مؤتمر العالم الإسلامى الأول الذى أسفر عن إنشاء منظمة دائمة هى منظمة التعاون الإسلامى وأنشأ لجنة القدس برئاسة ملك المغرب ووضع وقفية للقدس بملايين الدولارات واضطرت إسرائيل لقبول بعثات معمارية من مصر والأردن لإصلاح ما أفسده الحريق.
***
الآن.. وفى العقد الثانى من القرن الواحد والعشرين.. لم يعد منبر المسجد الأقصى هو المعرض للتهديد بل القدس العربية بمسجدها الأقصى وبكل ما تحمله من تاريخ ومقدسات هى المهددة.
للأسف.. لم يخطئ ترامب التقدير.. على الأقل تقدير رد الفعل العربى.. وقد أكدت ذلك مندوبته بالأمم المتحدة السفيرة «نيكى هيلى» عندما قالت: «قالوا لنا إن السماء ستقع على الأرض إذا اعترفتم بالقدس عاصمة لإسرائيل.. وها هو الخميس والجمعة يمران وما زالت السماء فى مكانها»!
لقد اتخذ ترامب قراره بعدما تأكد أن السماء لن تقع على الأرض.. كان التفكير الأمريكى يتجه إلى أن قياس رد الفعل المحتمل فى السعودية يكفى لإعطاء المؤشر المطلوب.. فالسعودية هى حامية حمى الإسلام وهى موطن الحرمين الشريفين وهى المكان الطبيعى لقياس رد فعل العالم الإسلامى.
وقد كتبت مجلة فورين بوليسى تقول فى هذا الصدد: «لو كان هناك مكان واحد فى العالم نتوقع أن نسمع منه هدير الغضب لكان هذا المكان هو «السعودية حامية الإسلام وموطن الحرمين الشريفين»، ولكن ذلك لم يحدث، وقد تأكدت واشنطن أنه لن يحدث فقد أوفدت بعثة غير رسمية برئاسة «روبرت ساتلوف» مدير معهد دراسات الشرق الأوسط بواشنطن لجس النبض، وقد كتب مقالا عن هذه الزيارة فى مجلة فورين بوليسى قال فيه: «لقد تحدث إلينا المسئولون السعوديون ومنهم ثلاثة وزراء فى جميع الشئون، قطر ــ الإرهاب ــ اليمن ــ إيران ــ النفط. ولم نسمع كلمة واحدة عن القدس، حتى رابطة العالم الإسلامى التى تعد حاضنة التشدد السنى فى العالم لم نسمع من رئيسها محمد العيسى كلمة عن القدس بل لدهشتنا أخذ يتحدث بفخر عن الصداقات التى أنشأها مع بعض الحاخامات اليهود فى أوروبا وأمريكا والزيارة التى قام بها أخيرا للمعبد اليهودى فى باريس، واعتقدنا أن المسئولين السعوديين يتركون موضوع القدس عمدا إلى لقائنا مع الأمير محمد بن سلمان، ولكن الأمير الشاب أخذ يتحدث بتدفق فى جميع الموضوعات دون أى إشارة إلى القدس مما اضطرنا معه أن نطرح السؤال حتى لا نترك الرياض دون معرفة الموقف السعودى».
ويقول الكاتب: «لقد حصر الأمير محمد نفسه فى كلمة آسف واحدة لهذا القرار ثم سارع بالحديث عن اعتزام الرياض العمل مع واشنطن لاحتواء ردود الأفعال، وإعادة الأمل فى عملية السلام».
ويختتم المبعوث الأمريكى مقاله قائلا: «فى يوم يعد من أحلك الأيام التى مرت على العلاقات العربية الأمريكية، كان الأمير السعودى يتحدث عن متانة هذه العلاقات والمستقبل الواعد للعلاقات السعودية ــ الإسرائيلية إذا ما تم التوصل للسلام»، وهكذا توصل المبعوث الأمريكى إلى خلاصة مفادها أن رد الفعل العربى سيكون: «Sober، measured and mature « أى رصين ومحسوب وناضج!!
***
لذلك لم يكن من المستغرب أن تهدد «نيكى هيلى» وتتوعد الدول التى ستؤيد القرار العربى فى الجمعية العامة للأمم المتحدة وتقول لهم: «أريدكم أن تعلموا أن الرئيس ترامب يعتبر هذا التصويت موجها إليه شخصيا وسيراقب هذا التصويت بنفسه وسنأخذ ذلك فى الحسبان وسنذكر هذا اليوم جيدا عندما يحين موعد سداد حصتنا فى ميزانية الأمم المتحدة وعندما تأتى الدول التى صوتت ضدنا تطلب مساعداتنا أو استخدام نفوذنا.. سنذكره جيدا حينئذ».
تقريبا نفس ألفاظ «دون كور ليونى» فى فيلم المافيا الشهير «الأب الروحى» ونفس الأسلوب الذى كنا نشاهده فى أفلام الكاوبوى والويسترن الشهيرة.
لقد مرت الأمور بسلام وسلاسة كما توقعت أمريكا وترك الأمر ليحمل أثقاله الفلسطينيون بمفردهم مع تشكيل لجنة بالجامعة العربية لكى تجتمع وتعلن أهمية الحفاظ على الوضعية القانونية للقدس، بينما يسارع الكنيست الإسرائيلى بالبناء على الخطوة الأمريكية فيصدر قانونا يكبل فيه الحكومات القادمة بعدم التنازل عن أى جزء من القدس فى أى مفاوضات قادمة وقانون آخر فى طريقه للصدور بضم المستوطنات إلى إسرائيل لكى يسرى عليها ما سرى على القدس.
لقد تفاخر ترامب بإنجازه الكبير واعتبر أنه قدم خدمة كبيرة لعملية السلام بإزاحة القدس عن مائدة التفاوض مما يسهل التوصل إلى حل لباقى المشكلات!! حقا إنها صفعة القرن التى تلقاها العرب وأداروا خدهم الأيسر.
***
وبالرغم من المهانة التى أضيفت إلى مصائبنا الجسام فإن هناك جانبا خفيا مضيئا فى هذه الظلمة الحالكة.. وهو بدء التفكير الجدى فى العودة إلى حل الدولة الواحدة.. وأقول العودة لأنه الحل الذى كان يتضمنه ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية والذى تنازلت عنه فى أوسلو لتقبل بحل الدولتين وفقا لاتفاق أوسلو الذى اتخذته إسرائيل غطاء لتوسعها الاستيطانى والاستيلاء على ما تبقى من الأراضى الفلسطينية.
لقد بدأ الحديث فى فلسطين عن حل الدولة الواحدة.. وذلك على لسان شخصيات سياسية كبيرة ومسئولين فى السلطة مثل البرغوثى وصائب عريقات وحتى أبو مازن نفسه لمح إلى ذلك، وهو الحل الذى سيضع إسرائيل أمام خيارين إما فقدان هويتها اليهودية وإما العيش فى دولة أبارتايد (فصل عنصرى) مثل ما كانت عليه جنوب إفريقيا فى الماضى وهو أمر يصعب استمرار قبوله على المستوى العالمى، والله غالب على أمره.