عمارة بلا معماريين - وائل زكى - بوابة الشروق
الأربعاء 18 ديسمبر 2024 11:45 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عمارة بلا معماريين

نشر فى : الإثنين 10 فبراير 2020 - 10:30 م | آخر تحديث : الإثنين 10 فبراير 2020 - 10:30 م

هناك محطة بنزين تقع على ناصية تقاطع شارع الألفى مع شارع الجمهورية بالقاهرة، تلك المحطة تحتل موقع مبنى منزل الألفى بك محافظ القاهرة الذى نزل به نابليون ليصبح المبنى مركز قيادة الغارات المدفعية على الأسوار الغربية للقاهرة الفاطمية، قد لا يتساوى هذا المبنى فى قيمته التاريخية وجدانيا مع القيمة التاريخية لبيت الأمة الذى قطنه الزعيم سعد زغلول مثلا، وربما لم يوثق مبنى كان سكنا للألفى ثم مقر قيادة لنابليون فى حين كان التوثيق فى حد ذاته ربما أهم من الحفاظ على المبنى، لدواعٍ تاريخية وتراثية وعلمية ولكن بالقطع لا يمثل المبنى فى ذاته قيمة معمارية مثلا، فى حين لن يتصور أحد منا فكرة إزالة قصر البارون بمصر الجديدة أو منزل السحيمى بالدرب الأصفر مثلا، لقيمتهما المعمارية ولن نقف على حدث ما جرى فى أى منهما أو حتى شخص بعينه سكن منزل السحيمى، فالقيمة هنا مادية فنية وأدبية تاريخية، وكم من مبانٍ تاريخية تنتشر حتى تتكاتف لتشكل منطقة ممتدة تنتقل من قيمة المبنى إلى قيمة المنطقة ومن قيمة العمارة إلى قيمة العمران.
***
هل هذا التوجه ينطبق على مبنى حديث البناء أو منطقة حديثة التكون؟ ربما تتبادر إلى ذهنك مبانى الأستاذ حسن فتحى بالقرنة أو مبانى الأستاذ رمسيس ويصا واصف على المنصورية بالجيزة أو حتى برج القاهرة، ولكل منها قيمته ما بين الفنية المعمارية البيئية إلى الفنية المعمارية الرمزية، فهل هناك معمارية أو عمرانية لها قيمة اجتماعية؟ إذا اتفقنا أن العمارة والعمران هما الدلالة المادية لثقافة الأمة واللتان لا تنفصلان عن علومها وفنونها، وإذا اتفقنا أن فنون غناء المهرجانات صارت واقعا تجذب لها ملحنين أسبغوها بلون بدأ يتسلل إلى مسامع الطبقات الخاصة قادما من العموم الشعبى، كما تسلل إلى كتّاب الأدب محتويات وعناوين كتب صارت ذات صيت لمجرد الاختلاف أو الإغراق فى الشعبية لتطفو على سطح المعروض والمسموع بل والمشاهد، فهل تنسحب تلك الفكرة أو لنقُل هذا التوجه على العمارة والعمران العشوائى كمنتج شعبى؟!
أصبح من النوادر التى تتناقلها مواقع التواصل الاجتماعى صورة ذلك المبنى الذى يرتكز على أربعة أعمدة يميلون ليلتقوا فى قاعدة لا تزيد مساحتها عن أربعة أمتار مربعة وسط الزراعات وتصحب الصورة تعليقات بعضها ضاحك وبعضها مندهش وفى معظمها إعجاب بتلك «الدماغ» المتحايلة على القانون والأسس والقواعد تحت ضغط الحاجة، كما لم يعد من المستغرب تلك المواقف العشوائية للحافلات «الميكروباصات» على الطرق العلوية كالدائرى عند كل منزَل عشوائى، والكبارى كموقف منزَل كوبرى 15 مايو قبل أن ينطلق كطريق علوى عابرا جزيرة الزمالك لتبدأ سلسلة مواقف أخرى، وما يسببه ذلك من مشاكل مرورية وحوادث، ولكنها فى مجملها بالتأكيد تمثل إشكاليات معمارية وعمرانية تنم اجتهادات ربما يطلق عليها البعض عشوائية أو عفوية أو تلقائية، والحقيقة أنها صارت ظاهرة ترقى إلى جواز وصفها بالشعبية!
وفى استمرار لطرح التساؤلات، أليست تلك المناطق العشوائية المحيطة بنا تمثل ظاهرة أخذت فى الانتشار منذ الثمانينيات من القرن الفائت؟، حتى صارت واقعا، وخرجت ثقافتها من حدودها لتنتشر فى شوارع المحروسة وتمتد لمعظم مدننا، فهل هى عشوائية انطلقت من تلقاء نفسها أم انحسر دور المعمارى والعمرانى حتى يجوز أن نطلق عليها «عمارة بلا معماريين» أو عمران بلا عمرانيين، لن أتركك لأفكارك كثيرا فى جواز إطلاق هذا التعبير من عدمه، فهو ليس من عندى ولم يؤلفه عقلى، بل هو توجه عالمى له معارضه الفنية المعمارية الشهيرة وكان أولها فى نيويورك عام 1964 والذى عرض فيه برنارد رودوفسكى صورا وتحليلات تحت عنوان «عمارة بلا معماريين» ــ مدخل إلى عمارة بلا نسب أو بلا أصل، والواقع أن معرضه لم يكن محاولة لتأصيل تلك العمارة ولكنه محاولة للفهم وإثراء الوعى.
***
وتوالت المعارض، ولا أخفيك أن احتلت قاهرتنا العزيزة أماكنَ لأكثر من صورة وتحليل وتعقيب، لمبانٍ ومناطق يأتى فى مجملها على مناقشة إشكاليات المعمارى والعمرانى المصرى أكثر مما تأتى على الفعل الناتج عن التصرف الشعبى إزاء حل مشكلات معيشية فى الحركة والانتقال والسكن، وتتنقل الصور والتحليلات من الشرق فى الصين إلى الغرب فى أوروبا والأمريكتين مرورا بالشرق الأوسط وإفريقيا، فالظاهرة ليست محلية تتوقف عندنا فقط، بل تناقش المختصين فيما أسموه «العمارة الأناركية» أو العمارة الفوضوية إن جازت ترجمتها بهذا المعنى، ويبدو أن تلك التسمية أثارت استفزاز العموم الشعبى حتى من المعماريين حتى تناولها المختصون ــ كما فى الفنون الموسيقية والغنائية ــ فى محاولات لاستلهام خطوط فكرية ذهبت بهم إلى عمارة ما بعد الحداثة بمنطلقات فلسفية اجتماعية أبرزت فى الواقع توجهات معمارية ذات قيم فكرية تتوازن بين الحفاظ على قيم معمارية تتماشى مع متطلبات العصر واحتياجات المجتمع وثقافته شاملة فى ذلك إرضاء نزعة الإبهار والإبداع لدى المعمارى.
هل ننظر إلى مناطقنا العشوائية كتكوينات مَرَضية يجب القضاء عليها؟، وأن من يقطنونها معتدون وساكنون غير قانونيين يجب القضاء على مناطقهم، وتنسحب إليهم نظرة وحدت بين قاطن المنطقة التلقائية قديمة النشأة التى التهمتها المدينة فى امتدادها، وبين المنطقة العشوائية التى تكونت على أطراف المدينة ثم التهمت أيضا ضمن الامتداد أو صارت هى امتدادا بتقنين وضعها بأسباب مختلفة أحيانا ومختلفة أحايين أخرى؛ نحن مدعوون فى كل الأحوال إلى دراسة المبنى أو المنطقة العشوائية قبل إزالتها إلى دراستها وتحليلها اجتماعيا وعمرانيا ومعماريا لنقف على الاحتياج ونحلل التصرف ونستنبط المخططات والعمارة الأمثل، فلسنا أقل من مختصين عمرانيين صاروا أساتذة فى ذلك المنحى بعد أن جابوا الأرض ومعارض العمارة الأناركية تحليلا واستنباطا ليدفعوا البعض إلى تكوين عشوائى استيطانى ما يلبث أن يقنن ليصير واقعا علينا أن نقبله، علينا أن ندرس الدفع العكسى ليصبح العزوف عن سكن العشوائيات رغبة توجه إلى سكن آخر مخطط قائم على سد الحاجات الشعبية لدى العشوائيين وبفلسفة ــ نحتفظ بها ــ ولكنها تحقق معادلة التوازن بين القيم المعمارية والارتقاء بالثقافة والوعى السائد بتلك المناطق فى مناطقهم الجديدة.

وائل زكى استشاري التخطيط العمراني وعضو مقيم عقاري بلجان طعون الضرائب العقارية، ويعمل كأستاذ للتخطيط العمراني وتاريخ ونظريات تخطيط المدن ومدرب معتمد إدارة المشروعات
التعليقات