لو تصورنا أن مصر عبارة عن بناية قديمة من عشرة أدوار مثلا، فإننى أرى المشهد السياسى فى مصر اليوم وكأن حريقا شب فى الدور الأول ويهدد بقية الأدوار، بينما يحاول كل فريق التحدث عن، أو معالجة، المشكلات المزمنة التى تعانى منها الأدوار الأخرى دون الانتباه إلى الخطر الأهم الذى يهدد البناية بأكملها.
المسألة الأهم فى مصر الآن هى ضرورة انتقال السلطة إلى سلطة مدنية فى أسرع وقت ووجود القوى السياسية الوطنية داخل الحكومة لمنع الكوارث التى تتسبب فيها الإدارة الحالية، ثم الشروع فورا فى وضع أسس بناء دولة القانون والمؤسسات والحريات وتمكين الشباب من إدارة مؤسسات الدولة المختلفة.
●●●
فى هذا الإطار يمكن فهم فضيحة تهريب الأجانب، فهذه الفضيحة، ومعها كل الكوارث الأخرى، هى نتيجة طبيعة للنتائج المترتبة عن خطأ جوهرى لم تأخذه بعض القوى السياسية بالقدر الكافى من الاهتمام، وهو انفراد المجلس العسكرى بإدارة المرحلة الانتقالية بعد التنحى.
الموضوع لا علاقة له بحسن أو سوء النية بأعضاء المجلس العسكرى، ففى الغالبية العظمى من حالات الانتقال الناجحة يتولى السلطة بعد الإطاحة برأس النظام قوى وشخصيات مدنية تؤمن فعلا بالتغيير وغير محسوبة على النظام القديم أو شخصيات إصلاحية فعلا من النظام القديم. وفى الثورات تتحمل القوى التى شاركت بالثورة مسئولية إدارة المرحلة الانتقالية فى تحالف وطنى موسع. هذا لم يتم فى مصر، وكان يمكن أن يتم بوجود ممثل واحد للمجلس العسكرى ضمن هذه السلطة المدنية.
المنطق هنا هو عدم انفراد العسكريين، وكان هذا هو منطق اقتراح المجلس المدنى/ العسكرى فى البداية، وهو نفس منطق حكومة الوحدة الوطنية الموسعة التى كتبت عنها فى أكثر من مناسبة وقدمتها إلى قوى سياسية وطنية قبل وبعد انتخاب مجلس الشعب، وهذه الحكومة الوطنية كانت، بالمناسبة، من مطالب الثورة والجمعية الوطنية للتغيير (التى كانت تمثل جميع القوى الوطنية) قبل التنحى.
لو استجابت القوى المختلفة لهذا الاقتراح منذ فترة لكانت قد منعت الكثير من الكوارث التى شهدناها فى الشهور الماضية، ولبدأت فى هيكلة الشرطة، ولكانت وضعت أسس سياسة خارجية حقيقة تتناسب مع دماء شهداء ثورتنا التى طالبت باسترداد كرامة المصريين. للأسف التأخر فى إدراك هذا الأمر كان سببا أساسيا لضرب كرامة كل مصرى فى فضيحة التمويل الأجنبى.
●●●
والآن الحل هو فى التعجيل بتشكيل حكومة وحدة وطنية موسعة، وليس حكومة حزب الحرية والعدالة مع وجود بعض الشخصيات المستقلة، فالحكومة الوطنية الموسعة صيغة مُجرّبة تاريخيا فى الكثير من الدول التى شهدت انتقالا ناجحا للديمقراطية، بل وتم التوافق عليها وتقنينها بين الفرقاء السياسيين فى أول حكومة بعد أول انتخابات ديمقراطية فى جنوب أفريقيا عام 1994. الحكومة المنشودة فى مصر يجب أن يكون عمادها الرئيسى حزب الحرية والعدالة، وهنا أشير إلى عدة أمور مهمة:
ــ منطق هذه الحكومة هو وجود القوى الوطنية المحسوبة على الثورة فى مراكز صنع القرار وقيامها باتخاذ كافة القرارات التى تعالج القضايا المختلفة بشكل توافقى وبغرض تحقيق أهداف الثورة فى الأساس (وليس مصالح حزب أو فريق سياسى واحد)، وبعقلية مختلفة تماما عن عقلية من يتولون المسئولية اليوم.
ــ إشراف الحكومة على عدة استحقاقات انتخابية، أولها انتخابات الرئاسة والتى هى انتخابات مصيرية جدا فى ضوء الإصرار على المادة 28 المثيرة للقلق فى قانون الانتخابات وفى ضوء تكالب شخصيات من النظام السابق على الترشح، بجانب الاستفتاء على الدستور الجديد وربما انتخابات المحليات.
ــ يجب أن يقود هذه الحكومة شخصية توافقية من حزب الحرية والعدالة أو شخصية وطنية من خارجه على أن تحظى الحكومة بدعم الحزب بشكل كامل.
ــ أن تضم جميع القوى السياسية الممثلة بالبرلمان والتى لم ترتبط بالنظام القديم، وأن تتجنب، قدر الإمكان، فكرة الأوزان الموجودة بمجلس الشعب اليوم، وعليها أن تنفتح أيضا على الشخصيات الوطنية المعروفة والائتلافات الشبابية الوطنية.
ــ التمثيل الواسع داخل الحكومة ضرورى وذلك لضمان عدم وجود معارضة قوية لها بالبرلمان، وهذا يُمكّن الحكومة من التفرغ لأداء مهامها فى الداخل دون عقبات بالبرلمان، فالمهام مهام وطنية جامعة: تحقيق انتقال السلطة، ثم وضع أسس دولة القانون والمؤسسات، ومعالجة مسألة العلاقات المدنية العسكرية بحكمة، والتصدى لبقية المسائل الملحة.
ــ تمثيل جميع الفصائل بالحكومة يمنحها قدرا أكبر من الشرعية الشعبية ويجعلها فى موقف أفضل عند مواجهة أى تحد لها من الخارج.
ــ وفى جميع الحالات لا يجب أبدا استبعاد الميادين من المعادلة إذا تطلب الأمر.
●●●
وأخيرا وإلى أن أعود إلى موضوع العلاقات المدنية/ العسكرية فى مقال آخر أود التذكير بحقيقتين مستمدتين من تجارب الدول الأخرى:
الحقيقة الأولى: الحالات التى يعلن فيها الجيش عن رغبته فى ترك السلطة ويتركها فعلا حالات نادرة، والحالات التى لا يعلن فيها الجيش عن رغبته فى ترك السلطة لكنه يبدى رغبته علانية فى إقامة وضع دائم للجيش هى حالات شائعة، لكن غالبا ما تفشل فى النهاية.
الحقيقة الثانية: أهم أسباب فشل القوى المدنية فى حسم العلاقات المدنية/ العسكرية وبقاء الجيش فى السلطة بشكل مباشر أو غير مباشر (كما حدث فى نيوغينيا وباكستان وبورما واندونيسيا والسودان وتركيا ونيجيريا وغيرها) هو وجود درجة عالية من الانقسامات الحزبية والسياسية، وتصور كل فريق أن بإمكانه، بمفرده، حسم الأمور وعدم ثقته بالآخرين، مقابل تمتع الجيش بدرجة عالية من التنظيم والانسجام. فاعتبروا يا أولى الألباب.