إذا أرادت أى دولة أن تواجه مشكلاتها الاقتصادية، فلتصلح التعليم.. وإذا أرادت أن تتصدى لمشكلاتها السياسية والأمنية.. فلتصلح التعليم، وإذا أرادت أن تضبط علاقتها بمحيطها الإقليمى والعالمى.. فلتصلح التعليم. أما إذا أرادت أن تكون مُشرقة المستقبل.. فلتُعد العُدة لعِقد من إصلاح التعليم.
***
فى إبريل من العام 1983، كتبت لجنة مكونة من أهم مفكرى الولايات المتحدة الأمريكية خطابا مفتوحا للشعب الأمريكى يحمل عنوان «أمة فى خطر «A Nation At Risk، مُذكرين فيه الشعب والحكومة بأنه لكى يمكن إنقاذ مستقبل أمريكا، فلا بديل عن إصلاح منظومة التعليم. ولقد كان الدافع الأساسى وراء عنونة هذا «الخطاب/الصرخة» بهذا العنوان الصادم، أن التقرير الذى أعده هؤلاء المفكرون عن أحوال منظومة التعليم الأمريكية، كشف عن اتساع الفجوة بين مخرجات التعليم الأمريكى وبين المخرجات التى تحققها دول العالم المتقدم، وخصوصا فى مجالات العلوم والرياضيات. ولما كان التعليم هو أساس بناء الإنسان، والإنسان هو أساس الهوية فى أى دولة، فإن الهوية الأمريكية ــ فى نظر ذلك التقرير ــ باتت مهددة فى عالم لا رحمة ولا هوادة فيه.
وإذا كان هذا هو حال منظومة التعليم الأمريكية خلال تلك الحقبة الزمنية، فللقارئ النابه أن يتخيل أن تقريرا كهذا أُعد الآن عن حالة التعليم فى مصر، أو ليترك لخياله العنان، ويتساءل: إذا كان هذا هو عنوان تقرير عن منظومة التعليم الأمريكية، فلو طُلِب من نفس هؤلاء المفكرين أن يعدوا تقريرا مشابها عن منظومة التعليم المصرية، ماذا يا ترى سيكون عنوان هذا التقرير؟!
على أى حال، سأحاول الآن صياغة أربع سمات عامة يمكن أن يتضمنها أى تقرير يستهدف تحليل المشكلات الرئيسية فى منظومة التعليم المصرى، بشقيها الجامعى وقبل الجامعي؛ كى أبنى على ضوئها رؤيتى الإصلاحية لإنقاذ هذه المنظومة، كى تتولى هى إنقاذ الاقتصاد المصرى.
ــ إن أولى هذه السمات، هى القصور فى الإنفاق. والقصور الذى أقصده ليس قصورا فى الحجم فقط، ولكنه قصور فى نوعية الإنفاق وكفاءته. فأما عن الحجم، فمؤشر واحد من مؤشرات التنمية العالمية التى ينشرها البنك الدولى يمكن أن يثبت لنا هذا القصور. فلو استبعدنا الإنفاق على المبانى والمعدات التعليمية، فإن ما أنفقه الاقتصاد المصرى على التعليم فى العام 2017 كان فى حدود 14.5 مليار دولار أمريكى بالأسعار الجارية (ربع تريليون جنيه مصرى تقريبا). ولكن فى نفس العام، كان إنفاق دولة جنوب إفريقيا مثلا فى حدود 17.1 مليار دولار. (لاحظ أن عدد سكان مصر يقترب من ضعف عدد سكان جنوب إفريقيا). وأما عن نوعية الإنفاق وكفاءته، فحدث ولا حرج. فالبطالة المُقنعة التى تنتشر فى أروقة الإدارات التعليمية والجامعية، ورداءة أنظمة تدريب المُعلم وأعضاء هيئات التدريس، والمستوى المتواضع لمعامل العلوم بالمدارس والجامعات، كلها مظاهر دالة على انخفاض درجة الكفاءة فيما يتم إنفاقه. فالإنفاق على التعليم المصرى ليس شحيحا فقط، بل تبدده مشكلات الكفاءة.
ــ وباستثناء جزء من وحدات التعليم الخاص، فإن ثانى السمات التى سيتضمنها تقرير مُفصل عن منظومة التعليم فى مصر، أن الجهاز التعليمى الحكومى قد فقد معظم ــ إن لم يكن كل ــ جاذبيته كوسيلة للتعليم. ففى التعليم قبل الجامعى (وخصوصا الثانوي)، حلت مراكز الدروس الخصوصية محل المدرسة، وأصبح المدرس الخصوصى بديلا كاملا عن المدرس الحكومى، وباتت علاقة الطالب بالمدرسة على أنها مجرد مكان تعقد فيه لجنة الامتحانات. وقل مثل ذلك عن التعليم الجامعى، وبصورة أكثر وضوحا فى الكليات النظرية، والتى صارت تستوعب الشطر الأعظم من طلبة الجامعات المصرية. وفى تفسير ذلك، أرى أن تركيز المحتوى التعليمى، فى مراحل التعليم المختلفة، على إكساب المعارف ودون التركيز على إكساب المهارات، هو المتسبب الأول فى هذه المعضلة.
ــ وثالث سمات منظومة التعليم المصرى، فتتمثل فى غياب الروابط بين هذه المنظومة وبين سوق العمل. ففى أروقة الجامعات والمعاهد والمدارس الفنية، لا يدرى الطالب ما يدور فى سوق العمل التى تصبو إليها. وعندما يصبح على مشارف هذه السوق، يكتشف أنه لم يعلم بعد علمٍ شيئا. وما يزيد من حدة هذه المشكلة، أن أصحاب الأعمال لا يضنون على المؤسسات التعليمية بتبرعاتهم وأوقافهم فقط، بل تجد معظمهم لا يلقى بالا بفكرة تدريب طلبة هذه المؤسسات خلال مراحل التعليم. ولكنك إذا نظرت لأقرانهم فى دول العالم المتقدم، ستجد أن التبرعات والأوقاف ومنح التدريب التى يقدمونها بانتظام هى التى ارتقت بمنظومة التعليم فى هذه الدول، ثم عاد رُقيها عليهم قبل غيرهم. ولذلك، فالقناة المُقدسة عند الدول المتقدمة، هى تلك القناة التى تربط الجامعة بالمصنع ذهابا وإيابا.
ــ أما رابع هذه السمات، وأشدها وطأة على مؤشرات التنمية الاقتصادية، فهى استنزاف الكفاءات التعليمية. ولا أقصد بهذا الاستنزاف تدفق المدرسين والمهنيين وأساتذة الجامعات للعمل المؤقت بالخارج؛ فهذا لا يُعد من قبيل النزيف، بل هو أحد الصادرات الثمينة التى يتعين علينا تحفيزها. أما هجرة خريجى كليات الطب والهندسة والصيدلة والعلوم للدول المتقدمة، فهو عين ما أقصده بهذا النزيف. لأننا بذلك نكون قد أهدرنا أثمن منتج تعليمى مصرى، وأعلاه كلفة فى ميزانية التعليم.
أدرك تماما أن هذه السمات السابقة لمنظومة التعليم ليست وليدة اليوم ولا الأمس؛ ولكنها نتاج لعقود من تراجع منزلة التعليم فى سلم أولوياتنا القومية. ولكن ما أدركه أيضا أن استمرار التعليم متأخر فى هذا السلم، يعنى أن كل الجهود المبذولة حاليا لعلاج مشكلاتنا العويصة ستظل ضعيفة المردود ومحدودة الأثر. ومن ثم، لا مناص أمامنا إلا أن يصير إصلاح منظومة التعليم هو أولويتنا الأولى. فكيف السبيل إلى ذلك؟!
***
إن إصلاح منظومة التعليم فى مصر ليس بالأمر الهين، ولا بالقضية التى يمكن لمفكر، مهما بلغ نبوغه، أن يحللها منفردا. كما أن لهذه القضية أبعادا فنية، لا يمكن لغير المتخصصين تناولها (كملائمة السلم التعليمى، وطول العام الدراسى، وطول اليوم الدراسى، والمناهج والطرق التربوية والتعليمية، ومعايير تقييم المدرس والأستاذ الجامعى... إلخ)، وبالتالى، فليس من المتوقع أن تتحمل مقالة واحدة، أو حتى سلسلة مقالات، عبء هذه المهمة الشاقة. ومع ذلك، وفى حدود ما يسمح به المقام، سأطرح فى النقاط التالية بعض المكونات الأساسية لبرنامج إصلاحى يتعلم من التجارب الناجحة، ويؤمن بقدرة الاقتصاد المصرى فى التغلب على الصعاب التى تواجهه، مادام قد وضع إصلاح التعليم على رأس أولوياته.
ــ المكون رقم واحد فى برنامج إصلاح التعليم، هو تطوير استراتيجية وطنية مكتملة ومتكاملة الأركان، وقابلة للقياس والتقييم. وستكون هذه الاستراتيجية مكتملة الأركان، إذا تضمنت حلولا لمشكلات كفاءة الإنفاق، وجاذبية المؤسسات التعليمية، والروابط بين هذه المؤسسات وبين سوق العمل، ونزيف مخرجات التعليم، والتنسيق بين نفقات الاستثمار فى الأبنية والمعدات التعليمية والنفقات التعليمية الجارية على الرواتب والمشتريات والصيانة... إلخ. وستصبح استراتيجية قابلة للقياس والتقييم المستمر، إذا كانت أهدافها واضحة ودقيقة وغير فضفاضة، وإذا كانت مُصاغة بطريقة كمية، إلى جانب صياغتها الوصفية.
ــ والمكون الثانى لهذا البرنامج الإصلاحى، أن تحوز استراتيجية التطوير على قبول مجتمعى واسع، كى يساند السياسات المنبثقة عنها. وهذا القبول سيأتى بطريقين لا ثالث لهما. أما الطريق الأول، فهو أن يشارك المجتمع، بفئاته وأقاليمه المختلفة، فى إعداد وتطوير هذه الاستراتيجية، حتى لو اقتضى الأمر أن تطرح لاستفتاء عام. أما الطريق الثانى، فهو أن يتولى الإعلام التنموى دوره المنوط به فى التوعية بهذه الاستراتيجية، حتى لو تطلب الأمر إعداد حملة ترويجية عنها فى جميع وسائل الاعلام.
ــ على أن إعادة النظر فى المحتوى التعليمى يعتبر المكون الثالث فى هذا البرنامج الطموح. فكل ما حدث من جهود فى هذا الخصوص، كان بمثابة تكديس للمعارف التى يحصل عليها الطالب. أما الاهتمام بالمهارات التى تصقل قدراته، والتى تجبره على الانتظام فى العملية التعليمية، فيجب أن تلقى اهتماما بالغا من البرنامج الإصلاحى المقترح.
ــ والمكون الرابع فى هذا البرنامج، هو سياسات إعادة الاعتبار لأساتذة الجامعات والمعلمين، وخصوصا معلمى المرحلة الابتدائية. والاعتبار الذى يتعين إعادته ليس ماليا فحسب، بل يمكن لهذا البرنامج أن يذهب لأبعد من ذلك ويقدم لهم المزايا العينية والاجتماعية التى يستحقونها، والتى تناسب مكانتهم العالية فى صناعة المستقبل المصرى.
ــ ونأتى هنا لبيت الداء، والذى تعذر به الحكومة ــ أى حكومة ــ نفسها وهى تدافع عن واقع منظومة التعليم؛ ألا وهو مصادر تمويل البرنامج الإصلاحى. ولكى يتسق هذا البرنامج مع نفسه، فعليه أن يقر بأن مشكلات الموازنة المصرية تحول حاليا دون التوسع فى الإنفاق على التعليم. وعليه أن يعلم كذلك أن حصة التعليم فى ميزانية معظم الأسر المصرية تأتى تالية لحصة المأكل والملبس، أو قد تسبقها. وعليه أن يعى أيضا أن ميزانية الأسرة لم تعد فى استطاعتها تحمل أى زيادة جديدة فى الإنفاق على التعليم أو غيره من الإنفاق. فما هو الحل إذن؟! فى رأيى أن الحل يكمن فى إعادة تنظيم إنفاق الحكومة وإنفاق الأسر على التعليم. فالهدر الشديد فى نفقات الحكومة ينبغى له أن يتوقف، والإنفاق على الدروس الخصوصية وعلى شراء الكتب والمستلزمات التعليمية الخارجية ينبغى أن يوجه لميزانية الدولة. ورغم أنى لا أملك إحصاءات دقيقة عن حجم الهدر فى نفقات الحكومة، ولا عن حجم نفقات الأسر على «التعليم الموازى»، فإن يقينى أن هذه الموارد المُضاعة يمكن أن تكون المقوم المالى الأول لهذا البرنامج الإصلاحى. وهذا هو المكون الخامس فى البرنامج الإصلاحى المقترح.
***
لنرجع الآن للتقرير الأمريكى الذى ابتدأنا به هذا التحليل، فلقد ذكر معدوه أنه «إذا حاولت قوة أجنبية معادية أن تفرض على أمريكا أداء تعليميا متوسطا مثلما هو موجود اليوم (يقصدون العام 1983)، فسينظر إليه على أنه حرب». أفلا يكفينا ذلك لأن نؤمن بأن معركة مصر الحقيقية هى فى ساحات التعليم، وأن نؤمن بفرضية إصلاح منظومة التعليم المصرية، وأن ندعو ليكون شعار العِقد القادم (2020ــ2030) هو «عقد إصلاح التعليم»؟!
خبير اقتصادى