يدور نقاش فى لجنة الشئون الدفاعية فى الكونجرس الأمريكى حول ما اذا كان يجب وقف المساعدات العسكرية المخصصة للجيش اللبنانى، وينطلق النقاش من المتغيرات السياسية، التى عصفت بلبنان والتى توحى بأن الحكومة الجديدة متأثرة بنفوذ حزب الله وانها ربما تكون بالتالى خاضعة لسياسته.
وبما ان الإدارة الأمريكية تصنف حزب الله حركة إرهابية، فان تسليح دولة خاضعة لنفوذه يتناقض مع سياسة هذه الإدارة، على النحو الذى ردده أعضاء الكونجرس المطالبون بوقف المساعدات العسكرية.
فى الأساس تشمل هذه المساعدات، اضافة إلى الأسلحة والمعدات والتجهيزات المختلفة، تدريب وإعداد الضباط فى المعاهد العسكرية الأمريكية المختصة. وهذا يعنى أن هوية الأسلحة مرتبطة بمصدرها.. وأن هذه الهوية مرتبطة أيضا بمصدر قطع الغيار.. والذخيرة. كما أن التأثير الثقافى على القيادات التى يجرى إعدادها وتدريبها فى المعاهد العسكرية يشكل عوامل ارتباط أخرى بالمصدر، وينقل عن وزير الدفاع الأمريكى روبرت جيتس قوله «إن الكليات العسكرية الأمريكية لا تعلم أسلوب حرب فقط، ولكنها تعلم أيضا فلسفة العلاقات العسكرية ــ المدنية»، وفى ذلك إشارة واضحة ومباشرة إلى دور معاهد التدريب العسكرى فيما يتعدى السلاح واستخداماته الحربية، إلى مجالات توظيفاته السياسية واستخداماته فى الحياة المدنية العامة. أى أن التدريب العسكرى ليس مجرد تدريب على القتال بالأسلحة الحديثة، ولكنه إعداد تربوى للقيادات العسكرية على التعامل مع المجتمع المدنى (السياسى) من موقع القوة العسكرية. وانطلاقا من هذا المبدأ بنت الإدارة الأمريكية فلسفتها التى تصدت بها للمطالبين بوقف المساعدات العسكرية للبنان، ويبدو أن ذلك كان كافيا لإقناع هؤلاء بالتراجع عن مطالبهم.
جرى هذا الأمر سابقا مع مصر أيضا. فمنذ عام 1979 التزمت الولايات المتحدة مقابل التزام مصر بمعاهدة السلام مع إسرائيل (اتفاقية كامب ديفيد) تقديم مساعدات عسكرية للقوات المصرية بقيمة 1.3 مليار دولار. وقد تمكنت مصر من خلال ذلك من استبدال معظم سلاحها السوفييتى بسلاح أمريكى، بما فى ذلك سلاح الجو الذى أصبح الآن يعتمد على طائرات إف ــ 16 الأمريكية بدلا من الميغ والسوخوى الروسيتين. ومنذ ذلك الوقت فتحت المعاهد والكليات العسكرية الأمريكية أبوابها أمام الضباط المصريين، الذين تدربوا على فنون القتال بالأسلحة الأمريكية، ودرسوا فى الوقت ذاته فلسفة الاستخدام غير المباشر للسلاح فى إطار العلاقات المدنية ــ العسكرية، ولعل ذلك كان واضحا من خلال سلوك القوات العسكرية أثناء ثورة التحرير فى مصر.. وحتى من خلال سلوك القوات العسكرية التونسية أثناء ثورة الياسمين فى تونس.
وحدث العكس مع إيران. فقد كانت إيران تعتمد فى عهد الشاه الراحل محمد رضا بهلوى على السلاح الأمريكى، حتى إنها كانت تلقب بالحارس الأمين للمصالح الاستراتيجية الأمنية والنفطية للولايات المتحدة فى الشرق الأوسط وفى الخليج العربى. ولكن بعد الثورة الإسلامية أوقفت الولايات المتحدة تزويدها حتى بقطع الغيار، فعمدت إلى تغيير هوية سلاحها، ووجدت فى الاتحاد الروسى ضالتها المنشودة.. ثم لجأت إلى الصناعة العسكرية المحلية، وأصبحت تنتج الصواريخ والأسلحة المتوسطة مع ذخيرتها، وهى الآن تصدر أنواعا من هذه الأسلحة مع ذخيرتها إلى دول أفريقية فى شرق وغرب القارة. وذهبت إيران فى تطوير مشروعها النووى إلى حد اتهامها بأنها بصدد انتاج سلاح نووى. ومع انقطاع التسلح الإيرانى ــ الأمريكى انقطعت أيضا جسور التواصل الثقافى العسكرى، وهو ما تدفع الولايات المتحدة ثمنه اليوم من خلال تدهور علاقاتها مع إيران.
ومرت العلاقات الأمريكية مع الباكستان فى المرحلتين معا. أى فى مرحلة التعاون وفى مرحلة التنابذ. فى المرحلة الأولى كانت الباكستان فى الخمسينيات من القرن الماضى عضوا فى حلف المعاهدة المركزية مع تركيا وإيران والعراق. وهو الحلف الذى أنشأته الولايات المتحدة ليكون امتدادا إسلاميا لحلف شمال الأطلسى فى الشرق الأوسط وفى شرق آسيا. وكانت الباكستان ركيزته الأساس، الأمر الذى دفع الهند إلى أحضان الاتحاد السوفييتى السابق.. كما دفعها إلى المشاركة فى قيادة عالم الحياد وعدم الانحياز مع مصر (عبدالناصر) وإندونيسيا (أحمد سوكارنو) والصين (شوان لاى). وبلغ التعاون العسكرى الأمريكى ــ الباكستانى بالسلاح وبالثقافة السياسية ذروته خلال الاحتلال السوفييتى لأفغانستان. فقد دُفع الجيش الباكستانى إلى الخندق الأمامى للإستراتيجية الأمريكية فى مواجهة التغلغل السوفييتى والتصدى لخطر تمدده إلى المياه الدافئة عبر أفغانستان حتى الخليج.. كما دُفع إلى الخندق الخلفى من خلال تدريب وتسليح وتشجيع «المجاهدين الأفغان»، الذين تحولوا فى نظر الادارة الأمريكية بعد الانسحاب السوفييتى من بلادهم إلى «إرهابيى حركة طالبان»؟!. ولما لم يعد للباكستان دور أساسى، تحولت الولايات المتحدة من جديد فى عهد الرئيس السابق جورج بوش نحو الهند لاستراجاعها إلى استراتيجيتها، وقد تمكنت من ذلك فعلا.. ولكن على حساب علاقتها مع الباكستان. وخلال هذه الفترة تحول الجيل الجديد من الضباط الباكستانيين إلى المعاهد والكليات العسكرية الروسية، وفقدت الولايات المتحدة العلاقة المباشرة معهم، وانقطع التواصل الثقافى العسكرى الذى يشكل أساس هذه العلاقات. وهو ما تعترف الولايات المتحدة بأنها تدفع ثمنه فى الوقت الحاضر غاليا جدا!.
فقد وصل هؤلاء الضباط الجدد إلى المراكز العليا فى قيادة الجيش من دون أن تكون هناك أسس تربوية وثقافية عسكرية تربطهم بالمدرسة العسكرية الأمريكية، كما كان الأمر مع الجيل السابق من زملائهم.
أما الخسارة الأهم للولايات المتحدة فكانت فى تركيا. صحيح ان المعاهد العسكرية الأمريكية لم تقفل أبوابها فى وجه موجات الضباط الأتراك للدراسة والتدريب، وصحيح أنها لا تزال حتى اليوم مفتوحة أمامهم، ولكن الصحيح أيضا هو أن الجيش التركى لم يعد صانع القرار السياسى فى تركيا، بل إنه لم يعد تلك القوة المؤثرة فى صناعة القرار.
من حيث المبدأ لا تستطيع الولايات المتحدة أن تدعو إلى الديمقراطية، وأن تكون ضدها فى الوقت ذاته. إلا أنها تحاول كما يقول وزير الدفاع جيتس «إقامة علاقات تعاون عسكرى بما يخدم مصالح الطرفين»، الطرف المستفيد من المساعدات والطرف الأمريكى. لقد كان واضحا كيف يستفيد الطرف الذى يتلقى المساعدات العسكرية.. ولكن لم يكن واضحا دائما كيف تستفيد الولايات المتحدة من تقديم المساعدات. فالقاعدة الثابتة هى أن الدول ليست جمعيات خيرية.. وأنها لا تقدم المساعدات هكذا لوجه الله.. ولكنها تفعل ذلك دائما «لغاية فى نفس يعقوب»!
وفى لعبة الأمم الغاية دائما تبرر الوسيلة.