رغم إيمانى الكامل بأهمية تعميق التصنيع الوطنى كعلاج ناجع لمشكلات الاقتصاد المصرى الراهنة، إلا أننى أخشى أن تتسبب سياسات التكيف المالى التى تطبقها الحكومة حاليا فى إعاقة الوصول لهذا العلاج، وهو ما يبدو جليا فى المناشدات التى يطلقها رجال الصناعة الوطنية عبر وسائل الإعلام لحمايتهم من الآثار السلبية المتعددة لتلك السياسات.
لقد طبقت الحكومة حزمة من السياسات المالية والنقدية الانكماشية كشرط ضرورى لموافقة صندوق النقد الدولى على إقراضها مبلغ 12 مليار دولار، لاستخدامه فى تمويل العجز الراهن فى موازنة الصرف الأجنبى. وكانت الزيادات السعرية من أبرز مكونات هذه السياسات، وخصوصا زيادة أسعار الطاقة بعد رفع الدعم جزئيا عنها، وزيادة سعر الائتمان والخصم (وصل لمستوى 15.25 % فى آخر اجتماع للجنة السياسة النقدية بالبنك المركزى فى 16/2/2017 )، بالإضافة لتخفيض قيمة الجنيه بعد قرار التحرير الكامل لسعر الصرف.
على أنه فى ضوء تلك السياسات أصبحت الصناعة الوطنية، بشقيها العام والخاص، تعانى من نوعين من المشكلات:
النوع الأول: يحدث على الصعيد المحلى، كنتيجة لارتفاع تكاليف الإنتاج الاجمالية. فارتفاع أسعار الطاقة وزيادة أسعار الفائدة وزيادة فاتورة الاستيراد من مدخلات الإنتاج المستوردة يزيد من تكاليف الإنتاج والتمويل الكلية فى قطاع الصناعة. وتترجم تلك الزيادة مباشرة فى صورة ارتفاع أسعار منتجاتها النهائية. وأمام هذه الحالة، فإن الصناعة الوطنية بين خيارين أحلاهما مر، فهى إما أن تحمل المستهلك الأخير عبء تلك الزيادة، مع تيقنها بأن دخله الحقيقى المتاح للتصرف فى وضعه الراهن لن يمكنه من تحمل ذلك العبء، وإما أن تُضطر لتقليل الانفاق على بنود الأجور ــ سواء بتسريح جزء من العمالة أو بتخفيض متوسط الأجر النقدى ــ كى تتجنب رفع أسعار منتجاتها النهائية، مع ما يصاحب هذا القرار من مقاومة شديدة من جانب عنصر العمل.
النوع الثانى: يحدث على صعيد المنافسة الدولية. فعلى الرغم من الدعاية الشائعة بأن تخفيض قيمة الجنيه كفيل بتحقيق طفرة فى حجم الصادرات، إلا أن الأثر العملى المتوقع لتلك السياسات يجعل الصادرات، والصناعية منها تحديدا، عرضة لمنافسة حادة وغير عادلة فى الأسواق الدولية، وخصوصا أن الارتفاع الشديد فى تكاليف إنتاجها، لم يواكبه ارتفاع مقابل فى جودة الإنتاج. ولأن قواعد المنافسة المستقر عليها فى الأسواق الدولية لا تضمن للصادرات الصناعية لأى دولة النفاذ والتصريف إلا إذا كانت تنافسية فى السعر والجودة معا، فإنه يؤيد ما ذهبنا إليه بأن تلك السياسات تزيد من مشكلات الصناعة الوطنية على صعيدها الدولى.
كذلك تجدر الاشارة إلى أن المنافسة الحادة التى تتعرض لها الصناعة الوطنية لن تقتصر على الأسواق الدولية، بل إن السوق المحلية تشهد هى الأخرى منافسة ضارية مع المنتجات البديلة المستوردة، فى ظل انخفاض معدل «الحماية الفعال» لها، كنتيجة لالتزام الحكومة بتحرير تجارة الاستيراد. ويزيد ذلك من المصاعب الاجمالية الملقاة على عاتق صناعتنا الوطنية.
****
هناك إذن العديد من الآثار التى عرضها التحليل السابق، والتى تعرضت لها الصناعة الوطنية القائمة من جراء تطبيق سياسات التكيف المالى، غير أنى أود التنبيه على أن أثر تلك السياسات لن يقتصر على هذا الحد، بل من المتوقع أن تمارس تأثيرا بالغا على فرص وُلوج شركات وطنية جديدة فى قطاع الصناعة، وخصوصا من المشروعات الصغيرة والمتوسطة. ذلك لأن ارتفاع أسعار الفائدة فى سوق رأس المال يجعل تكاليف التمويل ذات أثر سلبى على جدوى الاستثمار الصناعى. كما أنه فى ضوء ارتفاع العائد على اصدارات أذون الخزانة الحكومية، فإن تغطية تلك الإصدارات فى سوق رأس المال ستمثل مزاحمة واضحة لفرص حصول الاستثمار الصناعى على التمويل الكافى من قبل وحدات الجهاز المصرفى.
بمنطق مماثل، يمكن التأكيد على أن الاستثمار الأجنبى المباشر الذى تعول الحكومة على سياسات التكيف المالى فى استقطابه، ستتأثر وجهته القطاعية حال تدفقه للاقتصاد المصرى. إذ إن القطاع الصناعى لن يكون هو الوجهة المثلى فى ظل تطبيق هذه السياسات. ويرجع ذلك إلى أن أغلب أنشطة القطاع الصناعى تعتبر من النوعية كثيفة استهلاك الطاقة، مقارنة بباقى القطاعات. كما أن الطبيعة الانكماشية لسياسات التكيف المالى تقلل من الطلب الفعال على المنتجات الصناعية، وهو ما يقلل من جاذبية القطاع الصناعى للاستثمار الأجنبى الباحث عن الأسواق.
****
وفى ضوء هذا التحليل، وانطلاقا من الحرص الشديد على صناعتنا الوطنية، يمكننى القول بأن النهضة الصناعية التى نحتاجها ليس من المتوقع، بل قد يكون من المستحيل، أن تحدث فى ظل القيود الكبيرة التى يضعها برنامج التكيف المالى بصورته الراهنة، وهو ما يجعلنى أدعو متخذ القرار الاقتصادى، ليس لإعادة النظر فى مكوناته التى تؤثر على صناعتنا الوطنية فحسب، بل فى تقييم جدوى هذا البرنامج الانكماشى برمته!