تمر فى هذه الأيام ذكرى عالمية ذات طابع اقتصادى واجتماعى وسياسى. ففى الأول من مايو من كل عام، تحتفل معظم دول العالم بعيد العمال، تذكيرا للإنسانية بتاريخ نضال العمال لزيادة مكتسباتهم الاقتصادية من المشاركة فى العملية الإنتاجية، ولتحسين وضع طبقاتهم فى تركيبة المجتمع، ولتفعيل مشاركة أحزابهم ونقاباتهم فى الحياة السياسية.
وكما نعلم، فإن عمال العالم المتقدم لم يسبقوا عمال عالمنا النامى فى النضال العمالى فحسب، بل تفوقوا عليهم فى الإنتاجية وفى المساهمة فى توليد النمو الاقتصادى. وبسبب هذا السبق وذلك التفوق، هل يحق لعمال العالم المتقدم والنامى أن يتشاركا الاحتفال بعيدٍ واحد؟!
***
فى أى نشاط انتاجى، وعن طريق مزج نسب متفاوتة من عنصر العمل مع عنصر رأس المال (الآلات والمعدات والموارد المالية)، يمكن تحويل الموارد الطبيعية من شكلها الأولى، لتصبح سلعا وخدمات نافعة للإنسان. وبجمع قيم السلع والخدمات لجميع الأنشطة الإنتاجية فى اقتصاد ما فى سنة معينة، يخبرنا اقتصاديو «المحاسبة القومية» بقيمة الناتج المولد فى هذا الاقتصاد فى هذه السنة. ولكى تُحسب مساهمة العمال والآلات فى توليد هذا الناتج، تتولى «محاسبة النمو» تحديد مصادر النمو الاقتصادى المتأتى من مشاركة عنصر العمل وعنصر رأس المال فى الإنتاج. ومن هنا ينشأ مصطلح «الإنتاجية» فى علم الاقتصاد. فهو يعنى مقدار ما يشارك به العامل ومقدار ما تساهم به الآلات فى العملية الإنتاجية.
وبطبيعة الحال، تتباين الأنشطة الإنتاجية فيما بينها فى درجة الاعتماد على عوامل/عناصر الإنتاج. فهناك أنشطة كثيفة العمل، بسبب زيادة اعتمادها على العمال مقارنة بالآلات. وهناك أنشطة كثيفة رأس المال، نتيجة اعتمادها الكبير على الآلات مقارنة بالعمال. ومثلما تتباين الأنشطة الإنتاجية فى درجة اعتمادها على العمال والآلات، فإن اقتصاد أى دولة يأخذ طابعه الإنتاجى بناء على درجة اعتماده على تلك العناصر فى توليد ناتجه المحلى. ففى الاقتصاد المتقدم، تتسم الأنشطة الإنتاجية بأنها كثيفة الاعتماد على الآلات والمعدات والتكنولوجيا الحديثة. أما فى الاقتصاد النامى، فتجد أغلب الأنشطة الإنتاجية مازالت تعتمد على المورد البشرى فى توليد ما تنتجه من سلع وخدمات.
على أن المفارقة الجديرة بالتأمل هنا، هى أن زيادة اعتمادية الاقتصاد النامى على العمال مقارنة بالاقتصادات المتقدمة، لم ينتج عنها زيادة مقابلة فى إنتاجية هؤلاء العمال مقارنة بنظرائهم فى البلدان المتقدمة. فالحاصل أن الإنتاجية الحدية لعنصر العمل فى البلدان النامية منخفضة، وأن السياسات الاقتصادية المطبقة فى هذه البلدان لا تُفكك القيود العديدة التى تقيد مساهمتهم فى توليد الناتج المحلى الإجمالى. فكيف يمكننا تفسير هذه المفارقة بالاعتماد على تحليل تجربة الاقتصاد المصرى كأحد الاقتصادات الآخذة فى النمو؟!
إن بيانات الإنتاجية المقدرة من منظمة العمل الدولية ILO، توضح لنا بعض الملامح الأساسية لإنتاجية العامل المصرى. فخلال الفترة 2011ــ2018، ارتفعت إنتاجية هذا العامل من 8800 دولار، لتصل لحدود 10 آلاف دولار سنويا تقريبا. ورغم هذا الاتجاه الصعودى لإنتاجية العمال، فإنها مازالت أدنى ــ بمقدار مطلق ونسبي ــ من مستوى الإنتاجية العمالية فى دول التحول الاقتصادى (مثل دول اتفاقية «بريكس»). وبإمعان النظر فى أوضاع إنتاجية العامل المصرى، وفى الأسباب التى تحول دون ارتقاء هذه الانتاجية، سنجد أمامنا أسبابا تخص العامل نفسه، وأخرى تخص البيئة التى يعمل فيها.
فأما عن الأسباب الخاصة بالعامل، فإن أول مسببات انخفاض إنتاجية العامل المصرى هى تردى جودة التعليم والتدريب السابق على التحاقه بالعملية الإنتاجية، وتراجع كفاءة التدريب الذى يحصل عليه أثناء الإنتاج. فجودة التعليم إذن هى الأساس الذى تُبنى عليه إنتاجية العمال، وهى المفسر لمستوى هذه الانتاجية. وكيف لا، والمنطق الاقتصادى يُفصح عن حقيقة أساسية مفادها أن كل عامل يحصل على قدر متميز من التعليم والتدريب قبل وأثناء العمل، تزداد درجة مهارته الإنتاجية، ويصبح أكثر قدرة على إنتاج السلع والخدمات. ولذلك، وبسبب مشكلات منظومتى التعليم والتدريب، تعانى مخرجاتهما من تراجع فى المهارة، وتنخفض بسببها إنتاجية العمال المصريين مقارنة بنظرائهم فى دول تمتلك منظومة تعليمية أكثر تطورا.
وأما فيما يتعلق بالأسباب المرتبطة بالبيئة التى يعمل فيها العامل، فإن تراجع مستوى التكنولوجيا المستخدمة فى الإنتاج؛ وتفاقم مشكلات الصراع التنظيمى بين العمال وبعضهم البعض، والصراع المستعر بينهم وبين الإدارة؛ وانخفاض كفاءة منظومة الحوافز؛ تخلق كلها بيئة عمل خانقة لإنتاجية العامل المصرى، وذلك بغض النظر عن مستوى تعليمه وتدريبه. فبسبب انخفاض كفاءة رأس المال المادى (المبانى والسيارات والتجهيزات والأثاث... إلخ) فى أغلب الوحدات الإنتاجية، ونتيجة لتقادم التكنولوجيا المستخدمة فى عنابر الإنتاج، لا يتمكن العامل المصرى من تطوير وتحسين إنتاجيته. أى أن تراجع إنتاجية عنصر رأس المال المستخدم فى عنابر الإنتاج المصرية، يُسأل عن جانب مهم من تراجع إنتاجية العامل المصرى، ويُسأل كذلك عن تراجع الإنتاجية الكلية فى الاقتصاد المصرى.
لكن فى ظل احتدام الصراعات التنظيمية داخل عنابر ووحدات الإنتاج، هل يمكن لإنتاجية العمال المصريين أن ترتقى وتحسن نوعيتها؟ ببساطة، فكل صراع ينشب داخل أروقة الشركات والمصانع والأجهزة الحكومية، يخصم من القدرات الإنتاجية الكلية لهذه الوحدات، ويقلل من إنتاجية العاملين فيها. ولو بحثنا وراء الصراعات التنظيمية المقيدة لإنتاجية العامل المصرى، لوجدنا أن معظمها يرجع لغياب منظومة أجور عادلة وكفؤة، والجزء الآخر لتردى منظومة الإدارة. فأبحث إن شئت عن وحدة إنتاجية ــ عامة أو خاصة ــ تربط الأجر بالإنتاج برابط لا ينقطع، وتمنح العمال أجورا حقيقية تعادل قيمة ما يبذلونه من جهد. ثم ابحث أيضا عن وحدة إنتاجية تنتفى فيها سلوكيات المحاباة والمحسوبية والتمييز بأشكاله السلبية، أو أبحث عن وحدة إنتاجية ينتشر فيها العمل بروح الفريق الواحد. فإن لم تجد، فعاود البحث عن بيئة عمل لا توجد فيها استغلال لحقوق العمال، أو لا توجد بها صراعات بين العمال والإدارة. وعندما تنفق وقتا ليس بالقليل فى عملية البحث، ستؤمن حينها بأن نشوء وتفاقم الصراعات التنظيمية يفسر جزءا مهما من مسببات تراجع إنتاجية العامل المصرى، وسترى كيف أن هذه الصراعات تُبعد بيئة العمل المصرية عن القيم الإنتاجية الصحية (مثل الإخلاص، والإبداع، والدقة، والانتظام فى العمل... إلخ).
والحق، فإن الأسباب التى سُقناها حالا لتفسير تراجع إنتاجية العامل المصرى، هى نفسها الأسباب التى تفسرــ بدرجات متفاوتة ــ تراجع إنتاجية عمال معظم الدول النامية، وهى نفسها الأسباب التى أدركتها مبكرا الدول المتقدمة، ثم عكفت على صياغة سياسات اقتصادية تمنع حدوثها، كى ترتقى بإنتاجية عمالتها. فالتعليم المتطور، والتدريب المستمر، واستخدام التكنولوجيا الحديثة فى الإنتاج، وفرض نظم عادلة للأجور والحوافز، كانت بمثابة القواعد الرئيسية التى بُنيت عليها بيئة العمل الصحية فى الدول المتقدمة، وهى أيضا السبب الجوهرى فى اتساع الفجوة بين إنتاجية عمالتها وبين إنتاجية عمال عالمنا النامى.
***
فى مواجهة هذه الفجوة الواسعة، كيف يمكن الأخذ بيد العامل المصرى كى يتحلى بالقيم التى تدعم قدراته الإنتاجية، ولكى تضيق الفجوة بين إنتاجيته وبين إنتاجية العمالة فى الدول المتقدمة؟
بصدد الإجابة عن هذا السؤال، فلا يساورنا أدنى شك فى أن العامل المصرى قادر على ردم كامل هذه الفجوة، وقادر على أن يصبح نموذج عالمى يحتذى به فى تطوير الإنتاجية. لكن مع هذا الاعتقاد الراسخ، فإن حقائق الوضع الاقتصادى الراهن لمصر تستدعى من القائمين على السياسات الاقتصادية أن يضبطوا بوصلة هذه السياسات ناحية تعزيز الإنتاجية الكلية لعناصر الإنتاج المصرية، وفى القلب منها إنتاجية العمال. ولكى تنضبط هذه البوصلة، دعنا نذْكر عددا من الإجراءات الواجب تطبيقها فى الأجل القصير والمنظور، ثم نحدد الخطوط العريضة للبرامج المطلوب رسمها للأجل الطويل.
ففى الأجل القصير، وفى القطاع الحكومى، يتعين إنشاء مظلة موحدة لعملية التدريب الفنى والمهنى والإدارى. فمن غير المقبول أن يظل التشتت هو السمة الرئيسية لنشاط إدارات التدريب فى الوزارات والأجهزة الحكومية. وفى سبيل ذلك، وبهدف ترشيد نفقات التدريب، يقع على عاتق الأجهزة المعنية فى وزارة التخطيط إدارة وتنسيق وتمويل أنشطة التدريب الحكومى. ولتحفيز القطاع الخاص على الاهتمام بتدريب العاملين به، يجب أن تربط الحوافز والتسهيلات الحكومية المقدمة له بمؤشر يقيس كفاءة إنفاقه على التدريب. وعندما تنجح هذه السياسات فى تهيئة منظومة التدريب المصرية، سترتقى إنتاجية العامل المصرى، وستكون هذه السياسات النواة الأولى لإنشاء معهد مصرى متميز للإدارة العامة، وآخر للتدريب الفنى والتقنى.
وفى نفس الأجل القصير، فإن الإجراءات الحكومة للقضاء على الطاقات الإنتاجية المعطلة فى وحدات القطاع العام، وتحديث بنيته التكنولوجية، ستزيد مباشرة من الإنتاجية الكلية لهذه الوحدات، وبما ينعكس على ترقية إنتاجية العاملين فيها.
أما على صعيد برامج الأجل الطويل، فإن التعديل الجذرى لمنظومة الأجور والحوافز والتدرج والترقى الوظيفى فى الجهاز الحكومى، والسياسات الضابطة والمحفزة للشركات الخاصة لكى تحافظ على الحقوق العادلة للعاملين، ستساهم بالتدريج فى ارتقاء الإنتاجية فى القطاعين الحكومى والخاص. فحتى لو كان أجر العامل وإنتاجيته يمثلان وجهان لعملة واحدة، فإننا لكى نرتقى بهذه العُملة، ستكون نقطة البداية المنطقية هى إصلاح منظومة الأجور والحوافز المالية والمعنوية للعمال، وسترتقى معها إنتاجيتهم لا محالة. ولكن النجاح والاستمرار لن يُكتب لمنظومة الأجور والحوافز، إلا إذا تطورت، فى المقابل، منظومة المتابعة والتقييم. فمن فساد الرأى أن ينظر البعض لهذه القضية بعين واحدة؛ فتجده يدافع عن حقوق العمال، ثم يغض الطرف عن التشريعات والأنظمة الإدارية التى تنشر وتعزز القيم السلبية للعمال فى القطاعين الحكومى والخاص.
ولا ريب، فإن برنامجا متطورا لإصلاح منظومة التعليم المصرية (راجع مقالتنا «عقد اصلاح التعليم» المنشورة فى هذه الزاوية)، يسبق ما اقترحناه من برامج لتطوير الإنتاجية فى الأجل الطويل. فبغياب منظومة متميزة للتعليم، ستذهب كل السياسات الرامية لتعزيز إنتاجية العامل المصرى أدراج الرياح.
***
وعموما، فالرأى الذى يمكن استخلاصه من التحليل السابق، هو أن العيد الحقيقى للعمال فى مصر وجميع الدول النامية ليس بالضرورة يوافق عيد العمال العالمى، ولكنه سيكون فى الوقت الذى سيحصلون فيه على حقوقهم العادلة. وحتى يحدث ذلك، ستظل انتاجيتهم هى الأولى بالدعم والرعاية!