حرصت دائما على فصل العام عن الخاص فى حياتى فإن من ذلك الجيل الذى درج على أن الخير دائما فى منأى عن العلانية لأن من يتقبل هو الله وحده ومن يجازى أيضا هو وحده، لكن كان قدرا أن يعيش جيلى آخر أيام زمن جميل مضى وأن يفرض عليه الآن واقعا من الإيجابية أن يقاومه فى فرصة أخيرة للتخلص منه.
ذهبت ومجموعة صديقات نتلمس وسيلة لمعاونة أسرة مصرية بسيطة من العياط انفجرت فى جمعهم قنبلة رديئة الصنع يستخدمونها مصدرا للغاز فى إعداد الطعام واضاءة الكلوب، ومآرب أخرى ولأنهم يعيشون جميعا فى حجرة واحدة يأكلون فيها وينامون فيها ويذاكر فيها أبناء المدارس ويلعب الصغار وتنتظر الحامل طفلها: ثلاثة أجيال من عائلة واحدة يتنفسون فى حجرة واحدة ويعيشون تفاصيل حياتهم اليومية فى استسلام كامل، جمعهم القدر فى تلك الليلة ليفجر بينهم سعيرا ملتهبا متقدا لم يمهلهم حتى التفكير فى الفرار من حصاره فتساقطت ملامحهم وما بقى منهم إلا السواد ورائحة اللحم المحترق.
أبدا ما وددت أن ألقى على يومكم ظلا كئيبا لكنى لا أظن أبدا أن مرارة العلقم التى ملأت فمى وأنا أحاول التماسك أمام بقايا أشلاء تلك الأسرة مسجاة فى عنبر حريق مستشفى أم المصريين تزول ولو بعد حين.
تلفتنا حولنا لنجد أن طاقم الأطباء والممرضات بالفعل على مستوى عال من الكفاءة وحسن التصرف مع المرضى ومن صاحبهم من أهل قريتهم، يتحركون بسرعة فى هدوء يفعلون كل ما هو لازم كأنهم أطياف من نور خافت. كان المكان بالفعل نظيفا رغم معالم القدم الواضحة، كان الجو خافتا مرتفع الحرارة وكنت أظن أن ما أحسه من لفح الهجير إنما راجع لانفعالى لفكرة النار والحريق إلى أن لفتت نظرى صديقتى التى أعلم جيدا حدود غضبها منى لكنى أذكر اسمها ردا الفضل لصاحبه: نجلاء بدير إلى أن تكييفات قسم الحروق جميعها معطلة ولا تعمل.
انتظرنا الصباح ليبدأ كل منا مهمته: نجلاء بدير لوكيل وزارة الصحة أما أنا فللقاء مدير مستشفى أم المصريين الدكتور عبدالرحمن مهدى. واقع الحال أن هناك ثمانية عشر جهازا للتكييف فى قسم الحروق جميعها لا تعمل كانت هناك بقية مجموعة الأصدقاء فى انتظار النتائج يتنافسون فى عرض كل أنواع المساعدة والمعاونة على اختلافها. بلا شك إحساس صادق يؤكد أن بلادنا مازالت بخير وإن كانت أيضا «بعافية» لتعبير المصريين عن المرض.
أم المصريين مستشفى عام من مستشفيات وزارة الصحة بنى عام ١٩٥٢ قبل ثورة يوليو مباشرة فى عهد فاروق تم افتتاحه ومنذ ذلك اليوم لم يتوقف يوما عن خدمة المصريين، تلك كانت زيارتى الأولى له، خرجت منه بشعور إيجابى للغاية يدفعنى لأن أكتب عن أى مكان يقدم خدمة حقيقية محترمة للناس دون أجر.
أم المصريين مستشفى يستحق الدعم: لديه أطباء أكفاء وإمكانات علمية وخطة طموح للتطوير ورغبة فى خدمة الإنسان المصرى البسيط دعما لمبدأ «الدولة» وحق المريض فى العلاج والصحة.
أم المصريين لا يملك حق الإعلان عن نفسه لأنه مؤسسة لا يحق لها أن تستأجر شركة للإعلانات البراقة الدرامية التى تطاردكم بدموع أم تبكى فقدت ابنها أو أخرى استردته لأنكم تبرعتم وفى النهاية تمنحها أجرا سخيا من تبرعاتكم التى جاءت بالضغوط النفسية والتهديدات المستترة بسوء العاقبة إذا ما تقاعستم.
أعتذر عن خلطى العام بالخاص لكننى أردت استخدامه لتأكيد فكرتى وعلم ذلك عند الله. انسوا تماما أمر الأسرة التى احترقت تذكرى لها لا يعنى إطلاقا أننى أردت تأثيرا عليكم بل هى قصة واقعية تمام أعفيكم من معرفة تفاصيلها. فقط اذكروا أن دعمكم لمؤسسات الدولة دعم لها: لنا جميعا افعلوه بأنفسكم.