التصميم والإصرار والعزيمة مفردات لغوية تؤدى معنى اتخاذ قرار والعمل على تنفيذه وتذليل جميع الصعاب فى سبيل تحقيقه، فهل تصميم مبنى مثلا يندرج فى إطار هذا المعنى؟ الواقع أن هناك قرارات يتخذها صاحب القرار لا تتحقق بمجرد إطلاقها، وإنما تحتاج بعد عقد العزم على تنفيذها إلى مختصين يدرسون ذلك القرار ويضعون خطة تنفيذه، فالتصميم هو وضع خطة تنفيذ قرار أو رغبة فى شكلها التنفيذى الذى يكفل تحقيق القرار وإنفاذه على أرض الواقع، فإن اتخذت قرارك بإنشاء مبنى، هذا عمل هندسى معمارى سيخرج تصميمه أو خطة تنفيذه على أرض الواقع على هيئة رسومات دقيقة تصف المبنى ومكوناته وعناصر الربط فيه ليقوم الفنيون بتنفيذه، تلك الرسومات وضعت بعد دراسات وتطبيق الأسس والمعايير والنسب وتحقيق الاشتراطات واتخاذ الاعتبارات والتدابير اللازمة لتحقيق المراد من إنشاء المبنى، وكلما كان التصميم جيدا فهو بالضرورة معبر عن تحقيق رغبة المالك وكان التنفيذ سهلا ميسورا بدون صعاب أو مشاكل مترتبة عليه، كذلك هناك تصميم العمليات أو تصميم برامج الحاسب الآلى، جميعها أشكال نهائية مصممة لتتعامل معها ومن خلالها وبإجراءاتها لتؤدى النتائج المرجوة.
إذا التصميم هو الصورة النهائية الإجرائية التى ستتعامل وتتفاعل معها، فهل كل القرارات على جميع المستويات يمكن عمل تصميم لها؟ هناك مستوى من القرارات يحتاج إلى تبسيط وشرح وتفنيد مثل العلاقة بين القانون واللائحة التنفيذية، نصوص القانون غالبا تحتاج إلى لائحة تنفيذية تكون أكثر فنية فى مجال التطبيق شاملة تفريعاته وتأثيراته وأساليب تطبيقه، بل ربما تحتاج اللائحة التنفيذية نفسها لقرارات تنظيمية على مستوى الجهات المختلفة هى بالتالى أكثر تخصصا وتفنيدا لبنود اللائحة، كذلك القرارات الاستراتيجية التى تعبر عن توجه ورؤى قومية، لا يمكن التعامل معها بشكل تصميمى مباشرة بل تحتاج إلى خطط قومية ثم تفنيدها إلى خطط قطاعية ثم فنية فى كل قطاع وإقليمية وربما محلية فى كل إقليم، فإن أردت أن تقيم قرارا ما يمكنك تجميع جميع القرارات المنبثقة عنه وتطبيقاتها على المستويات والقطاعات ثم وضعها فى لوحة واحدة ليتكشف أمامك ببساطة لوحة تصميمية يتضح عليها مدى التوافق ونقاط التعارض وبواطن القوة ومواضع الضعف والاختراق.
***
كذلك هناك أنواع من القرارات تعبر عن رؤى وتقف عادة عند مستوى التوجيه ووضع الأطر والسياسات ثم تأتى مجموعة أخرى من القرارات تعبر عن تلك السياسات يمكن التعامل معها بتصميم الأشكال الإجرائية لها، ببساطة هل تستطيع تصميم حياتك؟ هل تستطيع تصميم علاقاتك مع المحيطين بك؟ ربما إذا قررت أن تعيش على رقعة شطرنج وتُخضع من حولك بناء على معرفتك الدقيقة بهم فى عمليات تصميمية متوالية من الأفعال وردود الأفعال، فهل هناك من يستطيع تصميم علاقاته الاجتماعية الأوسع؟ وإذا اتخذ كل شخص قرارا بتنفيذ شكل معين فى مخيلته لعلاقاته الاجتماعية هل هناك خبير يمكن أن يصمم لكل فرد علاقاته الاجتماعية وينسق اللوحة التصميمية النهائية للعلاقات الاجتماعية لجميع الأفراد؟ الواقع لم يتحقق ذلك فى أى بقعة فى العالم وعلى مر العصور التاريخية من قبل أحلام أفلاطون بمدينته الفاضلة وأرسطو بمدينته المثالية ومرورا بهما، لم تخضع أبدا العلاقات الاجتماعية لتصميم وإنما وقفت القرارات بشأنها عند مستوى الرؤى والتوجيه والتخطيط، لا سيما إن كان القرار يتعلق بإنشاء مجتمع لن تكون فيه البداية بالتصميم بل يأتى التصميم كآخر مرحلة يخرج فيها هذا المجتمع فى بوتقة عمرانية بوجهى العمران اللذين لا ينفصلان وهما الإنسان باجتماعياته والبيئة المنشأة بتصميماته، هذا العمران هو وجه المجتمع، ليست المبانى المشيدة عمرانا إن لم تنبض بالحياة الاجتماعية، هنا يأتى دور التصميم ليخرج لنا المبانى المشيدة لتحقيق جميع الأغراض والطرق الرابطة والميادين وجميع العناصر العمرانية التى توفر للمجتمع أدوات ممارسة حياته واستدامتها.
إن الخبرة التى انطلقت من الرحاب الأكاديمية إلى ميادين التطبيق العملى، ومن مجادلات العلم فى ميادينه وندواته وجمعياته إلى منازلات العمل ومشاكل الناس فى عشوائياتهم كما فى «كمباونداتهم»، وفى مراجعات نظم العمل وإدارة المجتمعات العمرانية فى عدد من مدن العالم، تذهب إلى كون التخطيط العمرانى ليس علما مستقلا بل هو حرفة التنسيق بين علوم شتى لصياغة مخطط يعبر عن التوجه المقصود ويرسم سبل تحقيق الأهداف، تلك العلوم التى تتنوع من الهندسية إلى العلوم الإنسانية والتى يجتهد فى كل منها خبراؤها ويقدمون تقاريرهم العلمية، يجتمعون عليها مع حرفيى التخطيط ليضعوا مخططا عمرانيا يتم اعتماده ويصدر به قرار وينبثق عنه مجموعة أخرى من القرارات التنفيذية يمكن التصميم لها، كإعداد التصميم العمرانى والتصميم التفصيلى وتصميم الطرق والمرافق ومشروعات الإسكان وغيرها من التصميمات التى من شأنها فى مجملها تنفيذ المخطط العمرانى بجوانبه كلها.
***
التخطيط لمجتمع يبدأ برؤية وتوجه وأهداف، وتخرج تلك الأهداف مصاغة بمجموعة من السياسات والقرارات يعكف عليها المختصون لتصميم كل جزئية منها تحقيقا لذلك الكيان المجتمعى، الإنسان وبيئته المنشأة وجهان لهذا الكيان المجتمعى، الذى تحكمه علاقات بين الناس وبعضها وعلاقات بين المنشآت وبعضها وكذلك علاقات بين الناس والمنشآت، لذلك نطلق عليها مسمى البيئة المادية أو البيئة التى أنشأها الإنسان لتكون بوتقة علاقاته، وإحدى صور البيئة المشيدة المصممة هى مشروعات الإسكان التى تحكمها اقتصاديات البناء وحجم الطلب الذى يمثل الحاجة إلى إيجاد سكن، إن تصميم مشروعات الإسكان كل على حدة، ثم توالى امتداداتها لا ينتج مجتمعا إن أردنا مجتمعا، المشروعات المفردة إن لم تجمعها رؤية موحدة ربما تنتج مجتمعا غير متجانس لا يشمله نسق واحد، وهنا أعود لبداية المقال ويطرح السؤال نفسه، ماذا لو كانت المشروعات المفردة ومنها مشروعات الإسكان يتم إنتاجها بقصد خلق مجتمع جديد، ستكون الإجابة أنه يجوز بالطبع عندما يكون مصمم تلك المشروعات قادرا على تصميم علاقات الناس الاجتماعية أيضا.