يوم الأحد 29 يونيو وقع 200 نائب فى البرلمان التركى ينتمون إلى أكبر أحزاب المعارضة وهى الحزب الجمهورى والحزب القومى بما يسمونه «عريضة» بترشيح الدكتور أكمل الدين إحسان أوغلو لرئاسة الجمهورية التركية. وقد أربك هذا الترشيح الحزب الحاكم، حزب العدالة والتنمية، الذى استقر مؤخرا على ترشيح رئيسه رجب طيب أردوغان لمنصب الرئيس، لأنه وجد نفسه فى مواجهة منافس غير تقليدى من خارج الحلبة السياسية وبعيدا كل البعد عن دهاليزها.
وقد كان اختيارا ذكيا من المعارضة، فقد أرادت أن تنازل أردوغان فى ساحته فوقع اختيارها على شخصية ذات خلفية إسلامية معتدلة ومستنيرة يجمع بين البعد الأكاديمى والدبلوماسى.
فمن الناحية الأكاديمية فهو شخصية لها تقديرها العالمى فى هذا المجال. وقد قام بالتدريس فى عدد كبير من الجامعات الأوروبية والأمريكية والعربية والأسيوية ويتمتع بعضوية مجالس إدارات العديد من المراكز البحثية والأكاديمية فى العالم، وقد تولى رئاسة المجلس العالمى لتاريخ العلوم لفترتين متعاقبتين وقد خصص الاتحاد العالمى لتاريخ وفلسفة العلوم (IUHPS) جائزة ذهبية باسمه تقديرا لما قدمه فى هذا المجال، كما أنه أسس وأدار مركز أبحاث التاريخ والثقافة والفنون الإسلامية فى اسطنبول، وهو أحد الفروع الهامة لمنظمة التعاون الإسلامى.
ولا يقل إسهامه على الصعيد الدبلوماسى عن إسهاماته الأكاديمية فقد أدار منظمة التعاون الإسلامى كأول أمين عام منتخب لها ولمدة تسع سنوات بمهارة دبلوماسية فائقة ونقل هذه المنظمة من المياه الخلفية الراكدة للعالم إلى الصفوف الأولى فقام بتغير ميثاق المنظمة وأسلوب العمل بها. مما جعل العالم ينتبه إليها لأول مرة وتتقاطر الدول الكبرى والصغرى لطلب الحصول على عضوية المراقب لهذه المنظمة وعقد مجلس الأمن لأول مرة فى تاريخه جلسة خاصة لبحث أوجه التعاون والتنسيق بين الأمم المتحدة والمنظمة الإسلامية.
وللدكتور أكمل الدين مبادرات دبلوماسية أخرى خارج نطاق التعاون الإسلامى، فقد سبق أن عينه السيد عزت بيجوفيتش أول رئيس لجمهورية البوسنة والهرسك سفيرا متجولا لهذه الجمهورية الوليدة، وله أنشطة عديدة فى مجال التقارب بين الأديان منها مبادرة «كلمة سواء» « Common Word » التى تهدف للتقارب والسلام والتفاهم بين العالم الإسلامى والغرب.
•••
لقد كان اختيار المعارضة العلمانية لمثال هذه الشخصية اختيارا ذكيا بلا شك، إلا أنه فى نفس الوقت يعنى أن العلمانية التركية فى أفول، فهذا الترشيح يعد اعترافا من المعارضة بأنها لا تستطيع منافسة حزب الحرية والعدالة إلا بوجه إسلامى.
وقد برر رئيس الحزب الجمهورى أكبر الأحزاب المعارضة مساندته لترشيح إحسان أوغلو بأنه يمثل تركيا بأكملها بكل عناصرها.
•••
وللدكتور أكمل الدين إحسان أوغلو علاقات حميمة بمصر لا إنقطاع لها، فبالرغم من أنه تركى من الجذرين الأب والأم إلا أنه ولد بمصر وتعلم فى مدارسها وجامعاتها فهو خريج كلية العلوم بجامعة عين شمس، وله مؤلفات عديدة عن مصر، ومن بين الكتب التى كتبها أو أشرف على إعدادها كتاب بعنوان الأتراك فى مصر وتراثهم الثقافى وقد صدرت طبعته العربية عن دار الشروق وهو يقول فى مقدمة هذا العمل الأكاديمى الضخم «.. لعل هذا الكتاب يأتى وفاء لدين، وإماتة للتاريخ يودعها إياه الكاتب الذى عاش فى هذا الموضع الذى التقى فيه بلدان وثقافتان ولغتان وامتزج هذا بذاك سنين طويلة، بعد أن ولد هناك فى مصر برياح القدر فى آخر بيئة عثمانية نتيجة لزيجة جاء أن طرفيها من دوابى الأناضول والآخر من جذر البحر الأبيض ليتلقيا هناك فى وادى النيل..» والجزيرة المعنية هى جزيرة رودس حيث أدى انهيار الإمبراطورية العثمانية والتسويات الإقليمية التى تلت ذلك أن وقعت تحت السيطرة اليونانية.. وغادرها معظم السكان ذوى الأصول التركية، ومن بينهم جدة الدكتور أكمل الدين التى حضرت لتعيش مع ابنتها المتزوجة من أحد الباشوات المصريين وهو سيد باشا شكرى.
ولقد انعكست هذه المشاعر الجياشة تجاه مصر فى الكثير من أعماله، فعندما أسس وأدار مركز أبحاث التاريخ والثقافة والفنون الإسلامية، حرص على تخفيض سلسلة إصدارات خاصة بمصر كان من أوائل إصداراتها ذلك السجل القيم للصور الفوتوغرافية النادرة لمصر التى جمعها من البومات قصر يلدز والذى صدر بعنوان «مصر فى عدسات القرن التاسع عشر».
•••
لا أعتقد أن هذا الكلام يساعد الدكتور أكمل فى حملته الانتخابية حيث أنه يهاجم من هذه الزاوية، فلم يجد منافسوه شيئا يهاجمونه به سوى التشكيك فى انتمائه وولاءاته وتركيته. فتارة يتهمونه بازدواج الجنسية وبأنه يحمل الجنسية المصرية وهو غير صحيح، فبالرغم من أن والديه الاثنين حضرا إلى مصر بعد انتهاء الدولة العثمانية وعاشا حياتها بعد ذلك فى مصر إلا أنهما لم يحصلا على الجنسية المصرية.
كما تتهمه الحملة المضادة بأنه لم يعارض «الانقلاب العسكرى» فى مصر عندما كان أمينا عاما لمنظمة التعاون الإسلامى ومن المفارقات أن مصر اتهمته أو عاتبته لعدم تأييد التغيير الذى حدث بشكل صريح، وفى الواقع أن الموقف كان يتطلب منه التعامل من الموضوع بحرص شديد نظرا لوجود دول بالمنظمة تؤيد ثورة 30 يونيو وما تلاها بقوة من بينها دول ذات وزن ثقيل فى هذه المنظمة مثل السعودية دولة المقر، ويقابل ذلك دولا مهمة أخرى مثل تركيا وإلى حد ما ماليزيا تعارضه. كان موقفه فى غاية الصعوبة نظرا لأن الدولة التى تقود معارضة «الانقلاب» هى الدولة التى ينتمى إليها تركيا وقد تعرض بسبب ذلك لضغوط شديدة وهجوم قاس فى حينها. وأنا لا أعتقد أن هذه الأمور تهم الناخب التركى إلى الدرجة التى تؤثر فى قراره أو اختياره، فإذا كان الناخب التركى سيولى أحد الموضوعات الخارجية اهتمامه فلن يكون بالقطع الثورة المصرية.
فهناك مشاكل خارجية خطيرة أجدر بأن تثير اهتمام المواطن التركى، كإعلان قيام دولة كردستان المستقلة على الحدود التركية، الذى يجرى العمل لإعداد استفتاء شعبى بشأنه، ثم إعلان الخلافة الإسلامية فى سمراء ووضع تركمان العراق فى هذا الخضم، ثم الحرب الدائرة فى سوريا على الحدود واللاجئين المتدفقين على تركيا.
•••
بالرغم من أن منصب رئيس الجمهورية فى تركيا هو منصب بروتوكولى، إلا أن الانتخابات هذه المرة جديرة بالمتابعة لأن الرسائل التى ستنجم عنها ستكون مؤشرا على اتجاهات السياسة التركية الداخلية والخارجية.