بجورباتشوف أو بدونه كان السقوط محتوما - سيد قاسم المصري - بوابة الشروق
الأحد 22 ديسمبر 2024 6:55 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بجورباتشوف أو بدونه كان السقوط محتوما

نشر فى : السبت 10 سبتمبر 2022 - 8:25 م | آخر تحديث : السبت 10 سبتمبر 2022 - 8:25 م
وارسو فى شتاء عام 1980
كما هى العادة كل صباح، تسارع زوجتى للخروج قبيل السابعة صباحا وهى تحمل كيسا به علبتان من السجائر وتقف أمام محل الألبان وتأخذ مكانها فى الطابور، وعند وصولها للـ«كاونتر» تدفع بالكيس للعاملة فتدخل وتضع فيه زجاجة من اللبن، وتضع علب السجائر فى ملابسها.. السجائر هى لضمان حجز زجاجة اللبن لها، فكثيرون يصلون إلى «الكاونتر» بعد وقفة طويلة فى الطابور فيجدون أن اللبن نفد.
• • •
كان البولندى يقف فى طابور أى شىء حتى ولو كان شيئا لا يلزمه.. وعند سؤال أحدهم لم يقف فى طابور السجائر وهو لا يدخن يقول لكى أقايض عليها بسلعة أخرى.. فالنقود وحدها لا تكفى للشراء.. لا بد من شىء معها.. إما سلعة أخرى أو حوافز من أى نوع.. والإنتاج فى بولندا شأن كل الدول الشيوعية لا يتم وفقا للعرض والطلب، بل وفقا لقرارات التخطيط المركزى، ولذلك فالاختلالات واضحة للعيان.. فأنت تجد أشياء ترفيه مثل جهاز اكتشاف المعادن الذى تمرره على الحائط قبل دق المسامير ليوضح أماكن وجود المواسير، بينما لا تجد الأساسيات والضرورات من الطعام والدواء.
فى العيادة الطبية للحى تحكى لنا الطبيبة أنها عندما تدخل فى الصباح وتجد العيادة مكتظة بالمرضى، بينما العدد المقنن لها هو عشرة أفراد فى الفترة الصباحية، فإنها تعرض على الأرقام فوق العشرة إما القدوم صباح الغد أو شراء احتياجاتها، وتعطى من يقبل منهم قائمة باحتياجاتها.
الأجانب وبخاصة الدبلوماسيون كانوا محل حسد أو حقد البولنديين؛ حيث كان لهم محل خاص يبيع بالعملة الصعبة وبه لحوم مستوردة وجبن مستورد وفاكهة ومعلبات.. إلخ. أذكر أن زارنا الطبيب بالمنزل، وبعد الفحص جلس ليكتب الروشتة على مائدة الطعام، وكان عليها طبق كبير به ثمرات من البرتقال ومغطى بفوطة.. ولا أدرى كيف لمح الطبيب البرتقال من تحت الغطاء، فإذا به يقول متوسلا «هل يمكننى أن آخذ برتقالة لابنتى؟».
السلع تظهر وتختفى بدون منطق، فكثيرا ما يختفى السكر تماما من الأسواق، ويقال لنا إن هذا موسم صنع المربى، لذلك سُحب السكر من السوق.. ويقول لى السيد/ ليشبنسكى الذى كنت أعرفه من مصر؛ حيث كان يعمل بأحد مكاتب السفارة البولندية فى القاهرة ويقطن فى نفس العمارة معى، يقول لى إنهم يحلون الشاى بالمربى.. حاولنا ذلك وطبعا أفسدت طعم الشاى.
كان من بين الأشياء المعتادة أن تذهب إلى أحد الفنادق الكبرى وتطلب شايا، فيأتى غير مصحوب بالسكر ويقول لك النادل إن التعليمات تقضى بعدم صرف السكر إلا مع القهوة.
أذكر أننى ذهبت ومعى الدكتور محمود فرويز المستشار الثقافى فى زيارة لجامعة وارسو لبحث التعاون الثنائى، فاستقبلنا مدير الجامعة والمتخصصون بحفاوة بالغة وسألونا ماذا نشرب، فطلبنا شايا، فساد الوجوم على وجوههم، ثم قال مدير الجامعة إن التعليمات تقضى بعدم صرف القهوة إلا للضيوف الأجانب «وكنا نأمل أن نشرب القهوة بمناسبة زيارتكم».. طبعا غيّرنا الطلب إلى القهوة فورا، ولكنى سألت عن السبب فى هذه التفرقة بين الشاى والقهوة، فقالوا إن الشاى يُستورد من الدول الصديقة والحليفة ويدخل فى نطاق المقايضة بسلع أخرى، ولا يُكلف الدولة عملة صعبة على عكس القهوة.. كل هذا يحدث فى بلد زراعى ضخم ذى إمكانات طبيعية وبشرية كبيرة جدا، ولعله البلد الشيوعى الوحيد الذى سُمح فيه بوجود قطاع خاص صغير الحجم مقزم ومكبل بقوانين كثيرة وملكية أشبه بحق الانتفاع ولا تورث، وبالرغم من ذلك فإن هذا القطاع هو الذى أنقذ بولندا من الانهيار عندما اندلعت الثورة بقيادة «ليخ فاونزا» (الذى ينطق خطأ «ليش فاليسا»).
ومع ذلك، فإن بولندا كانت أحسن حالا من الدول الشيوعية الأخرى، فقد حكى لى زميل دبلوماسى فى دولة شيوعية أخرى أن مدير العمارة الذى يقطن فيها طالبه مرة أن يطهو اللحم بطريقة أخرى غير الشواء؛ لأن الشواء تعبق رائحته أرجاء العمارة، الأمر الذى يستفز السكان.
• • •
ازدادت الثورة اشتعالا وعمت الإضرابات أنحاء البلاد واشتد غضب الناس، واشتدت الاضطرابات وكادت تصل إلى مرحلة الفوضى، فكان لا يمكن لهذا الوضع أن يستمر خاصة مع ازدياد الشائعات حول التدخل الروسى المحتمل.. وفى ليلة 13 ديسمبر 1981 نزل الجيش البولندى إلى الشوارع وأعلنت الأحكام العرفية وتمت السيطرة المحكمة على كل شىء.. واعتبر العمل فى 300 مؤسسة كالعمل فى الميدان يتعرض الممتنع عنه للإعدام رميا بالرصاص، وقُطعت جميع الاتصالات ومُنع الخروج أو الدخول إلى المدن إلا بتصريح، وأغلقت جميع محطات البنزين لإعاقة الناس عن الحركة.
وكانت الحراسة مكثفة على وجه خاص حول تمثال «لينين» الذى أصبح يجسد للبولنديين رمزا لكل مآسيهم.
وخلال أيام قلائل ساد شعور عميق بالخوف، وشعور جارف بالتشاؤم وفقدان الأمل، وكان توافق الآراء القومى هو أنه لا أمل فى التغيير إلا أن تتغير موسكو نفسها، وهو أمر كان يبدو بعيد المنال.. كان ذلك فى نهاية عام 1981.. وفى عام 1991، أى بعد عقد واحد من الزمن انهار العملاق السوفيتى دون أن يقربه أحد، وكان رهيبا فى سقوطه المفاجئ كما ذكرت صحيفة هيرالد تريبيون التى نعته إلى قرائها فقالت «إنه لفظ آخر أنفاسه متبرءا من النظرية التى قام على أساسها، مقطع الأوصال مفلسا جائعا ومرعبا حتى فى موته.. أما صحيفة الـ«برافدا» ــ لسان حال الإمبراطورية المنهارة ــ فأشارت أن ردود الفعل تباينت بشدة، فبينما صاح البعض فرحا ومهللا «انتهت المهزلة ــ La Commedia Finita» كان البعض الآخر يهيل الرماد على الرءوس ويتساءلون فى وجل عما يخبئه لهم القدر، فهم يراقبون آخر الرؤساء السوفييت وهو يستسلم ببطء ووقار.
• • •
ما من شك أن التغيير كان سيحدث بجورباتشوف أو بدونه، ولكن ما من شك أيضا أن جورباتشوف عجّل بحدوثه، فخلال خمس سنوات فقط من سياسته الجديدة البريسترويكا (إعادة الهيكلة) والجلاسنوست (الشفافية) وما تلاها من قرار المكتب السياسى فى عام 1989 بعدم التدخل بالقوة لدعم حكومات دول حلف وارسو، كما حدث عندما قامت موسكو بقمع ثورة المجر عام 1956 وثورة تشيكوسلوفاكيا عام 1968، فخلال عامين من قرار المكتب السياسى السوفيتى هذا انهارت كل هذه النظم ثم تلاها الانهيار الكبير للاتحاد السوفيتى نفسه.
• • •
عندما عشت فى بولندا فى أوائل الثمانينيات كانت الكلمة البولندية التى على كل لسان هى كلمة «نيما» (Niema) أى لا يوجد.. نسمعها فى المحلات وفى الصيدليات وعلى لسان العاملين فى المطاعم والفنادق.. الآن تضاعف حجم الاقتصاد البولندى ثلاث مرات وأصبح لكل اثنين من البولنديين سيارة، وبلغ حجم الدخل القومى عام (2021) 675 مليار دولار، ومتوسط دخل الفرد 15549 دولارا، ويتضاعف ذلك إذا قيس بالقوة الشرائية PPP فيبلغ 34363 دولارا، ومن المنتظر ــ وفقا لتقرير البنك الدولي ــ أن يصل بنهاية عام 2022 إلى 18600 دولار بعد أن كان فى عام 1990 تحت الحكم الشيوعى 1731 أى تضاعف نحو عشر مرات خلال ثلاثين سنة، كما أصبح الاقتصاد البولندى حاليا ــ وفقا لنفس التقرير ــ هو سادس أكبر اقتصاد فى أوروبا، ويشير التقرير إلى أن العشرين سنة الأخيرة هى أفضل سنوات تعيشها بولندا بعد نحو ألف سنة.
• • •
كل ذلك تحقق عندما هوى النظام الشيوعى الذى كان صرحا من خيال فهوى كما قال شاعرنا الكبير ابراهيم ناجى فى قصيدة الأطلال.

مساعد وزير الخارجية الأسبق

سيد قاسم المصري مساعد وزير الخارجية الأسبق
التعليقات