أمننا وسيادتنا ومستقبلنا الديمقراطى - بسمة قضماني - بوابة الشروق
الأحد 20 أبريل 2025 7:01 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

أمننا وسيادتنا ومستقبلنا الديمقراطى

نشر فى : الأربعاء 10 نوفمبر 2010 - 10:59 ص | آخر تحديث : الأربعاء 10 نوفمبر 2010 - 10:59 ص

 حرّكت محاولات تنظيم القاعدة الأخيرة انطلاقا من اليمن منظومة الأمن الإقليمية التى تزداد اكتمالا بعد كل عملية إرهابية أو محاولة فاشلة أو أى توتر ناتج عن عملية إسرائيلية كما حصل أثناء الحرب على لبنان فى صيف 2006 وأثناء الضربة على غزة فى نهاية 2008. فقد أصبح مفهوم الأمن المشترك، القائم على قاعدة أن المخاطر تُطبخ فى البلدان الإسلامية لتُنفذ فى الدول الغربية، يُشكّل قناعة راسخة لدى المؤسسسات السياسية والأمنية فى الولايات المتحدة ودول أوروبا. لهذا السبب رأينا المظلة الأمنية الأمريكية بكل تقنياتها الرفيعة قد فُردت على المنطقة بأكملها فى الأيام الأخيرة. ضباط ذوو العيون الزرقاء فى مطارات العواصم العربية يستجوبون مسافرين قادمين من اليمن باللغة الإنجليزية بينما يقف مسئولو الأمن العرب جانبا.

لقد سلّمنا بذلك وقبلنا بواقع أننا فقدنا عمليّا شقا واسعا من سيادتنا من أجل الحفاظ على أمننا وأخذت حكوماتنا تأمينا شاملا لدى الدول العظمى لأن الخطر هو مرعبُ حقا ولم تجد أمامها من خيار سوى القبول بهذا التنسيق الأمنى من أجل الحفاظ على استقرارنا وضمان سلامة شعوبنا.

الأمر ليس بجديد، وتاريخ معظم الدول العربية الحديثة منذ نشأتها بعد انهيار النظام العثمانى فى بداية القرن العشرين قد بدأ فعليا بقيام الدول المستعمرة، بريطانيا وفرنسا، بتأسيس المؤسسات الأمنية فى دول مثل الأردن والعراق وسوريا ولبنان والمغرب ودول الخليج العربى. وفى حالات عدة، سبق تأسيس الأجهزة الأمنية بناء المؤسسات السياسية للدولة. وقد أخذت هذه العملية بالاعتبار مصالح الدول المستعمرة الساعية إلى حماية طريق الهند وحقول النفط ومقاومة الشيوعية، وحماية الاستقرار الداخلى أيضا، فأعطت الأولوية لتجهيز وتدريب الأجهزة الأمنية لمواجهة المخاطر الداخلية. بالمقابل، فهذه القوى كانت تخشى من تطور ونوايا الأجهزة الحديثة فتعمد على الإقلال من عددها وتمنع عنها الأسلحة الأكثر تطوّرا. وقد شكّل ذلك أحد أهم أسباب هزيمة الجيوش العربية عند محاولتها مواجهة أول تحد خارجى المتمثل بحرب 1948 ضد تحقق المشروع الصهيونى. وجاءت الولايات المتحدة بعد حرب السويس لترث أوروبا فى رعاية المؤسسات الأمنية فى عدد من هذه الدول مما فتح المجال للتعاون مع قياداتها السياسية فى المجالات الأخرى. وقد قامت إثر ذلك ثورات وطنية ضد الهيمنة الغربية فى بعض الدول انقلب فيها النظام الجديد على نفوذ المستعمر القديم وتم تجريد المؤسسة العسكرية والأمنية أولا من آثار النفوذ الغربى ووضع عقيدة أمنية ودفاعية جديدة. وربما تشكّل حرب أكتوبر 1973 المرحلة الوحيدة والوجيزة التى استطاعت فيها الأنظمة العربية التغلّب على هذه التركة لتوجيه جهود مؤسساتها العسكرية والأمنية نحو مواجهة الخطر الخارجى الأكبر أى العدو الإسرائيلى بنجاح ولو نسبى.

منذ عدة عقود إذا تعيش أجيال عربية متتالية فى ظل مؤسسة أمنية مهيمنة تختلف ملامحها وأساليب عملها لكن نفوذها وسيطرتها على حياة المواطنين يزدادان مع كل تحدٍ جديد حقيقى كان أم مفتعل. وبما أنه يصعب على المواطن العادى أن يميّز بين الخطر الحقيقى والمفتعل، تنصاع المجتمعات لواقع الحكم الأمنى آملة أن يكون رشيدا. وفى هذا الإطار، سأل المفكر اللبنانى الراحل سمير قصير عن مهمّة الجيوش العربية فى كتابه «عسكر على مين؟» كان قد أصدره قبل اغتياله بأشهر قليلة فبقى سؤاله دون جواب مكتوب ولو كان الرد مكتوبا على الجدران كما يقول المثل.

لقد عاشت دول كثيرة تجارب شبيهة، فقد توالت مثلا هزائم الجيش الإسبانى خارج إسبانيا منذ القرن التاسع عشر فى الفيلبين وأمريكا اللاتينية وأفريقيا ولم ينتصر إلا على شعبه وآخر انتصاراته هذه كانت فى الحرب الأهلية الدموية فى الثلاثينيات من القرن الماضى عندما انتصر على الجمهوريين. وبعد هذه الهزائم ثم الانتصار، الذى أدى إلى صعود الفاشية اليمينية بقيادة الجنرال فرانكو، الذى كان يحمل لقب الكاوديليو لمدة ثلاثة عقود، انصاع الجيش للملكية بقيادة خوان كارلوس وقبل قيادة مدنية أعادت صياغة عقيدته وهيكلته وتحديد مهامه لتخرجه من الحقل السياسى وتخضعه للحكم المدنى وتحيده تماما. ربما نرى يوما النموذج الإسبانى يتكرر فى بلداننا العربية أما فى المستقبل المنظور فستبقى الأنظمة القائمة عبارة عن «أمنقراطيات»، كما وصفها فى تشخيص دقيق الكاتب السودانى حيدر إبراهيم. هذا لا يعنى بالضرورة أن هذه الأنظمة تتسم بالجمود، فهى تعى ضرورة أن تتأقلم مع مستجدات النظام الدولى وأن تتجاوب مع الحراك الاجتماعى من ناحية والضغوطات الخارجية من قبل الحكومات والرأى العام والإعلام الدولى من ناحية أخرى. وما من شك أن ما يُسمّى بالدولة التحتية أو العميقة، كما وصفت المؤسسة العسكرية فى دول مثل تركيا وباكستان، قد أخذت تطفو على السطح أى تظهر فى الحياة العامة وتمارس دورها بشكل علنى وتغير أساليب تعاملها مع المجتمع. فهى لا تترك أى مجال للشك بأنها عازمة على منع أى معارضة سياسية من شأنها أن تشكّل خطرا على النظام السياسى لكنها فى الوقت نفسه تقوم بدور الوسيط للسماح للمواطنين بالمشاركة فى الحقل العام ضمن الأطر، التى تحددها وذلك لضمان صورة إيجابية للنظام تدل على انفتاحه وتقبله للمطالب السياسية.

لقد أصبحت المؤسسة الأمنية تفاوض فئات مختلفة فى المجتمع من عمال وطلاب ومنظمات مجتمع مدنى بشكل مباشر، وتحدد شروط اللعبة فى مجال نشاطاتهم. فهى تمنحهم مساحة معيّنة من الحرية مقابل احترامهم لقواعد العمل المحددة وتعاونهم فى إعطاء المعلومات التى تطلبها المؤسسة. هكذا نشأت علاقة بين المؤسسة الأمنية والمجتمع من نوع جديد استُبدل فيها الخوف المترسّخ فى عمق المواطن بآلية تعاون وتفاهم ضمنى يحرص المجتمع على صيانته والحفاظ عليه. فقد أصبح دور المؤسسة الأمنية هو دور مفصلى فى عملية التحوّل السياسى والمرجع الأساسى فى عدد متزايد من القضايا الحيوية للبلاد ليس بالنسبة للقيادة السياسية فحسب بل للمجتمع بأكمله. فهى أصبحت الطرف الرئيسى فى الدولة، الذى يتفاوض مع أطراف اجتماعية مختلفة ويحسم أزمات ويقدم حلولا. أما السلطة السياسية فهى ترى هذا الدور مناسبا بل ومريحا بالنسبة لها لأنه يسمح لها بتقديم نفسها كنظام حكم منفتح من دون أن يتعرّض إلى خطر.

لقد قبلنا فقدان السيادة وكشف أسرار الدولة والتعاون مع الخارج من أجل ضمان سلامة المجتمع وتجنّب أن تُعرّض حياة المواطنين للخطر ولم نعد نرى أن توجد أجهزة الأمن فى كل مجالات حياتنا العامة والخاصة شىء غريب. لقد وصلت المجتمعات إلى قناعة بأن المؤسسة الأمنية هى التى سوف تحدد السقف الذى يُسمح تحته بممارسة شىء من الحرية. كل شىء يدل على تعزيز مستمر لدور المؤسسات الأمنية فى الدول العربية. فإذا السيادة ضائعة والاستقرار مضمون من قبل المؤسسة الأمنية فالمطلوب من الحاكم السياسى هو ليس أن يمنح حريات أوسع لأنه لم يعد الجهة التى تأخذ وتعطى فى هدا المجال وإنما أن يركّز على تأمين حكم نزيه ورشيد بينما يتحدد مصير الديمقراطية فى البلدان العربية بين المجتمع والمؤسسة الأمنية.

بسمة قضماني  مدير مبادرة الإصلاح العربي
التعليقات