الوثيقة كلها باطلة لصدورها ممن لا يملك إصدارها - محمد سليم العوا - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 2:55 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الوثيقة كلها باطلة لصدورها ممن لا يملك إصدارها

نشر فى : الخميس 10 نوفمبر 2011 - 10:10 ص | آخر تحديث : الخميس 10 نوفمبر 2011 - 10:10 ص

لا يزال الشعب المصرى، منذ 12 فبراير 2011 يمر بمحنة بعد أخرى، ويواجه حيرة تتلوها حيرة أكبر منها، ويتوقع أمرا ثم تأتيه الأيام بغيره. ودون دخول فى تفاصيل هذا كله أقول إن آخر ما فوجئ المصريون به هو مُسَوَّدة الدكتور على السلمى نائب رئيس الوزراء التى أعلنها يوم الثلاثاء 1/11/2011 وجعل عنوانها: «مُسَوَّدة إعلان المبادئ الأساسية لدستور الدولة المصرية الحديثة».  وفى معاجم اللغة أن المُسَوَّدة من الأيام هى الثقيلة المحزنة؛ وأن التسويد هو الجرأة (!!) والمعنيان جميعا متوافران فى مسودة الدكتور على السلمى التى أعادت الناس إلى ما ظنوا أنهم قد فرغوا منه (المبادئ الدستورية أو التى فوقها!) وجعلت أيام عيد الأضحى أيام مشغلة ثقيلة بالهم الوطنى بدلا من أن تكون أيام طاعات خالصة وفرحة عامة، والتى تضمنت جرأة غير مسبوقة على المبادئ الدستورية المستقرة، وعلى الإرادة الشعبية الحرة. والمسودات، فى الأعمال الفكرية والعلمية المكتوبة، تنتهى عادة بـ «مبيّضات» تحتوى على ما انتهى إليه الرأى، واستراح إليه الفكر، ورضى به العقل فى الشأن المكتوب، حتى تحولت مسودته أو مسوداته، إلى مُبيّضة، والمتعارف، بين أهل القلم، أن التسويد هو الكتابة القابلة للمحو، ولذلك كانت الممحاة مع القلم الرصاص هى عُدَّةُ القاضى، ومِنْحةُ البارى، سبحانه، لأهل الكتابة كافة. وتبييض مُسَوَّدة الدكتور على السلمى يكون بمحوها من التداول، وإعادة صفحاتها بيضاء بغير سوء، حتى يكتب فيها الشعب المصرى ما يختاره لنفسه، ويمحو ما يملى عليه.

 

والذين يعرفون الدكتور على السلمى يعلمون أنه رجلٌ جاد يعنى ما يقول، ويريد أن يحقق ما يسعى إليه، وأنه قوى الشكيمة ليس ممن يتنازلون عن رؤيتهم بسهولة.

 

ومع ذلك فإن الذين يحبونه، ويحترمون أداءه القديم وأنا منهم يدعونه بكل محبة، وبالحرص كله على الوطن، إلى إعلان سحب وثيقته «المُسَوَّدة» من المشهد السياسى المصرى بأسرع وقت ممكن، توقيا لما لا يحب أحد أن يقع فيه الوطن من أنواع الفتن التى قد تحول المُسَوَّدة من كلام تسود به الأوراق، وهو عادة قيد البحث والمناقشة، إلى خلافات حقيقية عميقة تسوِّد وجه الوطن ولا تكتفى بتسويد الأوراق وحدها. وقد دعانى ذلك كله إلى أن أقف مع مُسَوَّدة الدكتور على السلمى وقفات فى الشكل والموضوع.

 

تحاول هذه الوقفات أن تقنع الدكتور على السلمى بما أرجو أن يفعله، فى شأن مسودته. وتحاول فى الوقت نفسه أن تعلن للجميع مدى بعد هذه المُسَوَّدة عما يجب أن يتوجه إليه العمل، بعد الرأى، فيما تضمنته من شؤون وأثارته من شجون. ولست أزعم أن من واجب أحد أن يستجيب لما أقول، ولكننى أخشى خشية هائلة على الوطن من أن تعود إليه سياسة العناد التى كان بعضهم يفاخر بأنه حاصل فيها على الدكتوراه (!!) وأدت بنا إلى ما رأيناه ما بين يومى 25 يناير و11 فبراير 2011.

 

الوقفة الأولى: تتعلق بالتناقض بين الفقرة الأولى فى المُسَوَّدة والعنوان الأول فيها. ففى الفقرة الأولى تؤكد المُسَوَّدة على أن «الشعب هو مصدر السلطات، ولا ينبغى بأى حال من الأحوال المصادرة على إرادته بوضع مبادئ دستورية لا تتغير، ودونما الحاجة إلى إعلان دستورى بشأنها أو غيره، حيث تكفى إرادة الشعب».

 

وبعد ثلاثة أسطر وكلمة واحدة تقرر المُسَوَّدة أنها تعلن «المبادئ الأساسية لدستور الدولة المصرية الحديثة، وذلك على النحو التالى: أولا: المبادئ الأساسية».

 

وهذا الإعلان يناقض ما ذكرته المُسَوَّدة فى مقدمتها. فإذا كان الشعب هو مصدر السلطات، ولا ينبغى أن تصادر إرادته، فإن إعلان أحد، غير الشعب، المبادئ الأساسية لدستور مصر هو غصب صريح لا مراء فيه لسلطة الشعب وإرادته.

 

 

غصب السلطة والإرادة

 

ويتأكد هذا الغصب عندما يطالع القارئ نصوص الإعلان الدستورى فيجد فيه المادة (60) التى تجعل من واجب الأعضاء غير المعينين فى مجلسى الشعب والشورى القادميْن سلطة انتخاب جمعية تأسيسية من مئة عضو تتولى إعداد مشروع دستور جديد للبلاد.. إلخ. وليس معقولا أن يقصد الإعلان الدستورى، ولا النص المقابل للمادة (60) الذى استفتى الشعب عليه فى مارس 2011، أن تضع الجمعية التأسيسية المنتخبة مشروع دستور بعد أن تكون الحكومة المؤقتة غير المنتخبة قد أملت عليها مبادئه الأساسية أو أيا من نصوصه، من عند نفسها.

 

وغصب السلطة هنا مزدوج أو مضاعف، لأن الأصل الدستورى أن الناخبين (أكثر من 50 مليون ناخب) سينتخبون أعضاء مجلسى الشعب والشورى، ثم ينتخب هؤلاء الجمعية التأسيسية، فنحن أمام انتخاب على درجتين لتشكيل جمعية تأسيسية لوضع الدستور. وهى أول مرة فى التاريخ المصرى ينتخب المصريون فيها من يضع لهم دستورهم قبل استفتاء الشعب عليه. وتأتى مُسَوَّدة الدكتور على السلمى لتلغى أثر هذين الإجراءين الديمقراطيين، وتغتصب سلطة الشعب فى اختيار نوابه، وسلطة هؤلاء النواب فى اختيار الجمعية التأسيسية، بتحويل إرادتها، وسلطتها إلى صفر كبير أو صغير فى شأن المبادئ الأساسية فى دستور مصر.

 

والمعروف عند الصغار والكبار، من رجال القانون والسياسة بل والجميع أن ما بُنى على باطل فهو باطل. والمُسَوَّدة كلها باطلة لصدروها ممن لا يملك إصدارها، واغتياله سلطة الشعب مع السخرية غير اللائقة منه بتسميته «مصدر السلطات»!

 

 

لغة النظام السابق

 

إن الحكومة فى الإعلان الدستورى، وفقا للمادة (57)، مهمتها تولى السلطة التنفيذية. وقد أوردت المادة المذكورة ثمانية اختصاصات لمجلس الوزراء (الحكومة) ليس فيها من قريب أو بعيد ما يخول الحكومة أو أيا من أعضائها صفة فى أى عمل تشريعى، فضلا عن أن يخوله صفة إعداد وإعلان مبادئ أساسية للدستور سواء أكانت ملزمة أم إرشادية.

 

ولا ينقضى عجبى من قول من يقولون إنها مبادئ إرشادية وكأن نواب هذا الشعب، والجمعية التأسيسية التى سينتخبونها، جماعة من القُصّر أو ناقصى الأهلية الذين لا يستغنون عن الوصاية أو القوامة يفرضهما عليهم مجلس الوزراء المؤقت غير المنتخب!

 

وبعض رجال القانون المحترمين الذين تحدثوا عن أن هذه المُسَوَّدة لا تجوز معارضتها لأنها غير ملزمة حتى الآن يتحدثون فى غير نطاق ما نحن فيه. نحن نتحدث فى وجوب سحب هذه المُسَوَّدة، وطى صفحتها، وانتهاء أى كلام من قِبل الحكومة، أو أى سلطة حالية فى الدولة، عن وضع الدستور وما ينبغى أن يكون من مبادئه وما لا ينبغى أن يكون. وهم يتكلمون عن مدى جواز الطعن على المُسَوَّدة أمام القضاء، ويرون أن معارضتها يجب أن تتأخر إلى أن تصبح لها صفة الإلزام. ولكل قارئ أن يسأل نفسه ما جدوى المعارضة لنصوص أصبحت ملزمة؟ وأيهما أكثر حفظا للسلم الأهلى فى البلاد أن نعارض نصوصا لها صفة الإلزام أم أن نعارض مُسَوَّدة لا تزيد قيمتها القانونية عن أن تكون أفكارا سودت بها أوراق؟!

 

وبعض الذين يهاجمون معارضة المُسَوَّدة بتصويرها فى صورة صدام بين المعارضين لها وبين القوات المسلحة يدلسون على الناس، ويصورون الأمر فى غير صورته الحقيقية، ويصفون الأكثرية الحقيقية فى الوطن بأنها أقلية تريد أن تمارس الديكتاتورية بأجندات خارجية وداخلية. ولا يفوت أحدا من المتابعين للشأن المصرى أن هذه اللغة هى نفسها لغة النظام السابق، والرئيس المخلوع ونائبه، فى أيام الثورة التى انتهت بالإطاحة بهم.

 

الوقفة الثانية: وهى وقفة ضرورية على الرغم من بطلان المُسَوَّدة شكلا، لعيب عدم الاختصاص الذى شابها. ذلك أن العوار الموضوعى فى عدد من نصوص المُسَوَّدة يجب التنبيه إليه حتى لا ينخدع بتنميق بعض عباراتها أحد.

 

فى المادة الثانية من المبادئ الأساسية للمُسَوَّدة تكرار لنص المادة الثانية من الإعلان الدستورى وإضافة إليها تقول: «ولغير المسلمين الاحتكام إلى شرائعهم فى أحوالهم الشخصية وشئونهم الدينية». وهذا لغو لا يليق بأى نص قانونى، ويتعلم طلاب الحقوق فى سنتهم الأولى أنه لا يليق بالمشرع بوجه عام، وبالمشرع الدستورى بوجه خاص. لأن التشريع يجب أن يكون كلاما يستفاد منه حكم جديد، فإذا جاء صانع التشريع بكلام مقرر من قبل، فى التشريع نفسه، كان لغوا لا يليق به، وعبثا يجب أن يتنزه عنه. فغير المسلمين فى مصر يحتكمون، على مر التاريخ، إلى شرائعهم الدينية فى أحوالهم الشخصية وشئون مؤسساتهم الدينية، ولم تتدخل الدولة المصرية قط فى الأحوال العادية فى هذه الشئون.

 

 

رؤية اقتصادية مشوهة

 

وهذا هو المعمول به فى مصر منذ كانت فيها دساتير أو قوانين، والنص فى جميع الدساتير السابقة على أن الإسلام دين الدولة أكد هذا الأمر. ونص المادة الثانية من الإعلان الدستورى على أن الإسلام دين الدولة.. إلخ يعنى أن غير المسلمين يحتكمون إلى شرائعهم الدينية، لأن الإسلام يقرر، بغير خلاف، أن يُتْرَكَ غير المسلمين وما يدينون به.

 

والمادة الخامسة من المبادئ الأساسية للمُسَوَّدة تمنح المجالس العليا للهيئات القضائية سلطة تشريعية فيما يتعلق بمشروعات القوانين المتعلقة بتلك الهيئات.

 

والهيئات القضائية على أنواع فهناك القضاء العادى ومجلس الدولة، وهما جهتان مختصتان بالفصل فى المنازعات القضائية، وهو العمل الذى يشكل صلب اختصاص السلطة القضائية. وهناك هيئة قضايا الدولة، التى تتولى الدفاع عن الدولة فى القضايا المنظورة أمام المحاكم، وهى جزء من السلطة التنفيذية وليست جزءا من السلطة القضائية إلا بقدر ما يمكن أن يعتبر المحامون جزءا من هذه السلطة(!)

 

وهناك النيابة الإدارية وهى تمارس التحقيق والاتهام فى المخالفات الإدارية، وهى جزء من السلطة التنفيذية أيضا. ولا يجادلُ فى هذا الشأن بأن القانون سمى كلا من هاتين الجهتين الأخيرتين هيئة قضائية لأن هذه التسمية لا تعنى تحول أى منهما إلى جزء من السلطة القضائية. وقد فصلنا القول فى هذا الأمر فى كتابنا (القاضى والسلطان) الذى صدر عن دار الشروق سنة 2006.

 

وإعطاء المجالس العليا للهيئات الأربع سالفة الذكر سلطة تشريعية يخالف مبدأ الفصل بين السلطات إذ يعطى جزءا من السلطة القضائية وجزءا من السلطة التنفيذية حقا فى التشريع لا يجوز أن يعطى لهما بمقتضى المبدأ المذكور.

 

وحق السلطة التشريعية فى التشريع لا يجوز أن يقيد بموافقة أى جهة أخرى. نعم يجب أن تعرض مشروعات القوانين الخاصة بالهيئات القضائية، وبغيرها من الجهات المتخصصة، على تلك الجهات لإبداء رأيها فيها ولكن ليس لإقرارها أو الموافقة عليها.

 

ويثير العجب فى نص المادة الخامسة المذكورة تناقض أوله مع آخره فهو يبدأ بتقرير سيادة القانون، وخضوع الجميع له دون تفرقة، وينتهى باغتصاب سلطة التشريع وإعطائها لجهات قضائية وتنفيذية(!!)

 

والمادة السادسة من المبادئ الأساسية للمُسَوَّدة تتحدث عن الاقتصاد الوطنى وما تلتزم الدولة بحمايته من الملكية العامة، وتذكر عناصر هذه الملكية، وتهمل إهمالا تاما وسائل الإنتاج التى تملكها الدولة، أو يجب أن تملكها. وهذا يدل على عدم إدراك كافٍ لطبيعة الهيكل الاقتصادى الواجب إقراره والعمل به فى مصر أو على توجه اقتصادى يرمى إلى حرمان الشعب من دور الدولة الضرورى فى حماية وسائل الإنتاج التى توفر له غذاءه وكساءه ودواءه. إن الحالة الاقتصادية لمصر، حاليا ولمستقبل غير قصير، لا تحتمل تخلى الدولة عن هذا الدور، والتخطيط لهذا التخلى أو تسهيل وقوعه يوجه ضربة للغالبية الفقيرة من أبناء هذا الشعب الذين سيطر على مقدراتهم فى السنين العشرين الأخيرة طغيان رأس المال وجبروته. والأصل أن تضع الثورة، ودستورها وبرلمانها وحكومتها، حدا لهذا الطغيان والجبروت لا أن توفر له فرصة جديدة بإغفال أى ذكر لملكية الدولة لوسائل الإنتاج فى المبادئ الأساسية للدستور.

 

والمادتان السابعة والثامنة من المبادئ الأساسية للمُسَوَّدة ليستا إلا عبارات إنشائية تصلح للحصول على درجة فوق المتوسطة فى موضوع تعبير فى مدرسة إعدادية. فليس من شأن الدستور أن يذكر شريان الحياة على أرض مصر، ولا أن يصف مصر بأنها الكنانة، ولا أن يتحدث عن حقوق تاريخية لمصر فى نهر النيل، ولا أن يذكر تعزيز المصالح المشتركة للشعوب، ولا أن يذكر الاعتزاز بالدور الأصيل لمصر فى الحضارة الإنسانية، ولا أن يؤكد مساهمتها بإيجابية فى تحقيق السلام العالمى.

 

فهذه النصوص كلها تقرر واقعا ولا تنشئ حكما دستوريا؛ ولا يترتب على أى نص منها عمل، حيث يعرض الدستور للعمل أمام المحاكم أو أمام المحكمة الدستورية العليا؛ وعبارات الدساتير ينبغى أن تكون منضبطة محددة يتوصل بها إلى المعنى المقصود بغير تهويمات يظن أصحابها أنها لغة أدبية تحتملها الدساتير.

 

 

الجيش ليس سلطة فوق السلطات

 

والأصل فى الدستور أن ينظم هيكل الدولة، ويحدد سلطات الحكم فيها ويرسم العلاقة بين بعضها وبعض، وأن يحدد هوية الدولة. وإذا كانت مصر جزءا من القارة الإفريقية، وجزءا من العالم الإسلامى فإن موضع ذلك يكون فى وصف الدولة (فى المادة الأولى من المبادئ الأساسية للمُسَوَّدة) ثم ينبغى حذف الدفاع والاعتزاز والتعزيز وما إلى ذلك من نص الدستور فهو أليق بكتب التربية الوطنية فى المدارس الابتدائية منه بمُسَوَّدة نصوص دستورية، وذكر أن مصر تساهم بإيجابية فى تحقيق السلام العالمى ليس له معنى، لأن مؤداه أنه يمكن أن تكون مساهمتها سلبية!! فهل هذا مقصود أو متصور؟

 

والمادة التاسعة من المبادئ الأساسية للمُسَوَّدة تعطى المجلس الأعلى للقوات المسلحة سلطة تشريعية مزدوجة، فهو وفقا لهذه المادة الذى يقرر ميزانية القوات المسلحة على أن تدرج رقما واحدا فى موازنة الدولة وهو الذى يختص بالموافقة على أى تشريع يتعلق بالقوات المسلحة.

 

وموازنة الدولة تصدر بقانون، أى أنها عمل تشريعى، والتشريعات المتعلقة بالقوات المسلحة ليست إلا قوانين يصدرها المجلس التشريعى. ولا يجوز أن يرد على ذلك بأن اعتبارات السرية العسكرية تقتضى ألا يعلم ببنود الموازنة العسكرية أحد. فهذا كلام مرسل لا يقدم ولا يؤخر. ليس المطلوب أن تحدد القوات المسلحة فى ميزانيتها عند عرضها على مجلس الشعب كم طائرة ستشترى، وكم دبابة ستستورد، وكم غواصة ستتعاقد على تصنيعها، وما هى أنواع الذخائر اللازمة لكل سلاح وكمياتها وأثمانها. فهذا كلام لا يستقيم عرضه عرضا عاما للناس كافة.

 

والمجلس الأعلى للقوات المسلحة، بل الجيش كله، ليس سلطة من سلطات الدولة، ولا سلطة فوق هذه السلطات حتى يعهد إليه بالموافقة على القوانين. إن القوات المسلحة جزء من السلطة التنفيذية، وفى هذه الحدود، مع مراعاة الظروف الخاصة للشأن العسكرى، يجب أن تعامل فى الدستور وفى القوانين وفى واقع الحياة.

 

ونص الفقرة الأخيرة من المادة التاسعة على أن يعلن رئيس الجمهورية الحرب بعد موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة ومجلس الشعب هو مما يسميه إخواننا فى السودان (كلام ساكت). لأن علم المجلس الأعلى للقوات المسلحة بقرار الحرب بدهى تبعا لأنه هو الذى يعد القوات المسلحة لها، أما الموافقة فشىء آخر. ولو تصورنا أن دولة تريد أن تخوض حربا يذهب رئيسها إلى مجلس شعبها الذى يضم أكثر من خمسمائة عضو ليأخذ موافقتهم على قرار الحرب لتيقنا أن هذه الدولة مهزومة لا محالة(!) لأن خبرا يعرفه أكثر من خمسمائة شخص ـ غير السكرتارية لا يتصور أن يكتم لحظة واحدة بعد علمهم به.

 

 

اختراع سلطة فوق الدستور

 

والذين كتبوا هذا النص فى مُسَوَّدة الدكتور على السلمى لم يراجعوا الصحف، ومذكرات العسكريين، والمضابط الرسمية فى مصر قبل حرب أكتوبر، ولا يعلمون كيف تجرى أمور إعلان الحرب فى بلاد العالم المختلفة. ولا شك عندى أن العسكريين المحترفين سيتوقفون طويلا أمام احتمال أن يعلم بقرار خوض الحرب، مسبقا، نصفُ ألفِ إنسان أو يزيدون (!!)

 

ثم لنفرض جدلا أن رئيس الجمهورية لم يعرض الأمر على مجلس الشعب للاعتبارات العسكرية البحتة، فماذا سيكون؟! هل تقام عليه دعوى تعويض؟ أم يحاكم بتهمة عدم تطبيق الدستور؟ ومن الذى يتولى رفع هذه الدعاوى، أعضاء مجلس الشعب؟ أم أى مواطن باعتبار الحرب قد تكون ضارة ببعض الناس؟ أم سنعين جهة تختص بإحالته للمحاكمة فى هذه الحالة؟

 

ولا يغير من الأمر شيئا أن نص المادة (150) من دستور 1971 كان يشترط موافقة مجلس الشعب على إعلان الحرب لأن أدنى تأمل يدل على أن هذا النص لم يطبق، فقد خضنا حرب أكتوبر ولم يذهب الرئيس السادات إلى مجلس الشعب لإخباره بشىء إلا بعد عشرة أيام من بدء الحرب.

 

وفى المادة التاسعة ذكرت المُسَوَّدة مرتين اختصاص المجلس الأعلى للقوات المسلحة (دون غيره). وبعد أن ثارت الانتقادات من كل وجه ضد المُسَوَّدة عقد الدكتور السلمى مؤتمرا صحفيا يوم الأربعاء 2/11/2011 أعلن فيه حذف عبارة (دون غيره) من نص المادة التاسعة من مسودته. وهذا الحذف لا معنى له، لأن مجرد ذكر الاختصاص يعنى أن الجهة المختصة تختص دون غيرها. فالعبارة كانت فى الأصل تزيدا، وليس لحذفها أى أثر إلا أن يكون المراد به التلاعب بعقول المصريين، وإشعار عوامهم أن شيئا ما ذا قيمة قد أدخل على المُسَوَّدة، وهو ما لم يكن.

 

وفى المادة التاسعة كذلك نص على أن من مهام القوات المسلحة حماية الشرعية الدستورية. وهذا يعنى الزج بالقوات المسلحة فى الحياة السياسية بصورة مباشرة. وإعطاءها سلطة تفوق كل سلطات الدولة لأن الحامى أقوى وأقدر على الفعل من الخاضع للحماية فكأن القوات المسلحة سلطة فوق الشرعية الدستورية نفسها. ولو تصورنا أن القوات المسلحة كان من دورها أن تحمى الشرعية الدستورية وقت قيام الثورة لرفضت تنفيذ قرار الرئيس المخلوع حسنى مبارك الذى كلف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة البلاد، ولقامت بتسليم السلطة فورا إلى رئيس مجلس الشعب الذى كانت المادة (84) من دستور 1971 تنص على أن يتولى الرئاسة مؤقتا. ولكن القوات المسلحة لم تفعل ذلك، ولم تر أن من واجبها حماية حسنى مبارك، وإنما وقفت إلى جانب الشعب، وانحازت إلى شرعيته، فحَمَتْ ثَورَتَه، ونَجَّتْ البلاد من عواقب صدام بين الجيش والشعب.

 

وفى المادة العاشرة من المبادئ الأساسية للمُسَوَّدة تكرار لنص المادة (182) من دستور 1971 الخاص بمجلس الدفاع الوطنى. وقد أضافت المُسَوَّدة إليه حكما خاصا بالتجنيد الإجبارى وحكما خاصا بالتعبئة العامة، وعبارة إنشائية لا يترتب عليها حكم نصها: «والدفاع عن الوطن وأرضه واجب مقدس». وبصرف النظر عن ركاكة تعبير واجب مقدس، وعن الزج بالدفاع عن الوطن وأرضه فى نص ينظم إنشاء مجلس الدفاع الوطنى فإن هذا النص كله ينبغى ألا يوجد فى دستورنا الجديد لأن وسائل تأمين البلاد وسلامتها تتولاها السلطات المختصة فى الدولة، كل فى حدود اختصاصها ولا يقتضى الأمر تشكيل مجلس جديد يكرر ما تفعله هذه السلطات.

 

 

الوقفة الثالثة: مع معايير تشكيل الجمعية التأسيسية لوضع الدستور الجديد للبلاد

 

تضمنت المُسَوَّدة ثلاثة نصوص جاءت تحت هذا العنوان، وكلها لا شأن لها بما يمكن أن يسمى معاييرا (!!)

 

فالنص الأول: يشكل الجمعية التأسيسية من أشخاص مختارين من إحدى عشرة جهة حكومية (الهيئات القضائية، أساتذة الجامعات، اتحاد الجمعيات الأهلية، اتحاد الغرف التجارية، اتحاد الصناعات، المجلس القومى لحقوق الإنسان، القوات المسلحة، الشرطة، الاتحادات الرياضية، الأزهر، الكنائس المصرية).

 

وكان أصل المُسَوَّدة يتضمن تعيين عشر شخصيات عامة من قبل مجلس الوزراء ثم أعلن الدكتور على السلمى فى مؤتمره الصحفى يوم 2/11/2011 إلغاء هذه الفقرة. وقد حدد النص ثمانين عضوا ممن يعينون بهذه الطرق وترك لأعضاء مجلسى الشعب والشورى عشرين عضوا فقط.

 

وهذا عدوان على سلطة المجلسين المنتخبين، التى خصهما بها نص المادة (60) من الإعلان الدستورى، وهو نص كان حكمه جزءا مما استفتى الشعب عليه فى مارس 2011، يضاف إلى العدوان السالف ذكره فى شأن (المبادئ الأساسية)، كما تضمن هذا الجزء من المُسَوَّدة تحديد عدد أقصى وعدد أدنى لمن يستطيع أن يختارهم أعضاء المجلسين من كل فئة من فئات الشعب.

 

 

بطلان ووصاية

 

وهذا كله باطل ينبغى العدول عنه جملة وتفصيلا. ومناقشة تفاصيله إضاعة للأوقات لا تليق بالعقلاء.

 

والنص الثانى والثالث: يفرضان سلطانا لا أساس له للمجلس الأعلى للقوات المسلحة على الجمعية التأسيسية، وما تقرره من نصوص، ويجعلان من المجلس الأعلى مشرعا ورقيبا بعد تشكيل مجلسى الشعب والشورى وهو أمر لا يصح وليس له فى الدول الديمقراطية سابقة أو نظير. ويزج النص الثانى على وجه الخصوص بالمحكمة الدستورية العليا فى مهمة عجيبة لا تتفق وقانونها، ولا تتسق مع مهمتها القضائية، هى مراقبة نصوص مشروع الدستور.

 

والنصان المذكوران يفترضان بقاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة مديرا لشئون البلاد إلى أجل غير محدود، وهو أمر يخالف الإرادة الشعبية بغير شك، ويناقض ما أعلنه المجلس الأعلى فى أول بياناته من أن الفترة الانتقالية مدتها ستة أشهر، ثم يناقض ما أعلنه فى بيانه رقم 28 من أنه لا صحة لما نشر من أن انتخابات الرئاسة ستكون فى عام 2012(!!)

 

●●●

 

لقد بدأ اجتماع يوم 1/11/2011 الذى عُرضت فيه هذه المُسَوَّدة بثناء من عدد من الحاضرين على جهد الأستاذ الدكتور يحيى الجمل فى الحوار الذى أوصل إليها، وقد كان من مقتضى شكر هذا الجهد أن يستشار باذله فى الصياغة النهائية لهذه المُسَوَّدة، فقد كان قادرا لو عرض عليه نص هذه المُسَوَّدة بما أعرفه من خبرته الدستورية العميقة الواسعة على تجنيبها كثيرا مما وقعت فيه من مثالب، وكان بإمكانه أن يعيد صياغتها، بحنكته المعروفة، بحيث تبدو أحسن مما بدت.

 

ولكن الله جاعلٌ لكل شىء قدرا.

محمد سليم العوا الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
التعليقات