فى دراسات علم النفس السياسى والإعلام السياسى يتم عادة التمييز بين الشخصية الوطنية والصورة الوطنية، حيث تعكس الأولى الخصائص والسمات التى تميز الشعوب عن غيرها، وهى سمات تراكمية تعكس التراث والواقع المعاصر والتطلع إلى المستقبل، وهى تنعكس بقوة على الهوية الوطنية.
أما الثانية فهى تعبر عن كيف يرى الآخرون شعبا أو أمة ما، والصورة الوطنية تتشكل بقوة عبر وسائل الاتصال والخبرة التى قد تكون مباشرة أو افتراضية هذا فضلا عن فنون الدعاية المختلفة والتى قد تصل إلى عمليات غسيل المخ، بينما تتحكم الشعوب فى عناصر ومقدمات ومكونات الشخصية الوطنية الخاصة بها وتتطور فيها حسب الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والخبرات المستمرة، فإنها لا تملك شيئا للتحكم فى الصورة الوطنية لأنها صناعة خارجية تصل إلى حد تشكيل صور نمطية جامدة للأمم والشعوب غالبيتها سلبية.
فى هذه المقالة نتحدث عن الشخصية العربية، والتى تطورت بل تغيرت إلى حد كبير وتحورت بفعل تغيرات العصر وعلومه وبفعل التطور التكنولوجى غير المسبوق فى وسائل الاتصال ومن ثم التثقيف والتنشئة والتعليم والتربية، فمن المعلوم للكافة أن الشخصية العربية خصوصا فى أعقاب الحرب العالمية الثانية كانت فى مرحلة الاستكشاف والبحث ولكنها كانت أميل إلى اكتساب الأسس الأولية للاتجاه القومى العربى قبل الوطنى والإسلامى، ثم تأكد ذلك بالتوجهات القومية والتى قادتها مصر وشاركتها بقوة سوريا والعراق والجزائر ودول عربية أخرى عديدة. كانت للشخصية العربية سمات مميزة كالميل إلى الاستقرار والتعايش والسلام والتعاون ولم تكن ترتكن إلى النزاع والصراع والعداء والحرب، على الرغم من أن الصورة القومية خصوصا لدى الغرب كانت سلبية وبصفة أخص بعد حظر النفط عام ١٩٧٣.
فى هذه الفترة انعكست الشخصية العربية على تفضيلات قومية تمثلت فى محاولات التكامل والاندماج والوحدة، كالوحدة المصرية السورية (٥٨ ــ ٦١) ومحادثات الوحدة الثلاثية بين العراق وسوريا ومصر، ومحاولات تفعيل معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادى بين الدول العربية وإنشاء مؤسسة القمة العربية بدءا من يناير ١٩٦٤؛ بيد أن هذه التوجهات تعرضت لصدمة بعد هزيمة ١٩٦٧، وإلى أزمة بعد حظر النفط وتقسيم الوطن العربى بين دول نفطية دخلت السوق الدولية والمعاملات المالية العالمية بقوة، ودول نهرية أقل حظا، وأكثر معاناة.
ومع التحول فى النظام الدولى إلى نظام أحادى تسيطر عليه الولايات المتحدة تبدلت التفضيلات العربية إلى الافتتان بالغرب الرأسمالى، وإلى تكريس المصالح الوطنية على ما عداها، أو تزامن ذلك مع صعود أجيال جديدة فى الدول العربية سواء فى المغرب العربى أو الخليج، أجيال شابة تلقت تعليمها فى أوروبا والولايات المتحدة، أو فى أوطانها على أيادى معلمين متنوعين متنافرين فى انتماءاتهم وعقائدهم وبدأت بقوة خصائص جديدة فى الشخصية العربية تطغى على ما عداها تتمحور حول الأولوية المطلقة للمصلحة الوطنية على ما عداها، وكأّن هناك تعارضا حقيقيا أو حتميا بين ما هو وطنى وما هو قومى؛ وتحول ذلك إلى سلوك جارف يكاد يعادى ما هو قومى، والمراقب لا يعدم الأدلة العديدة للتدليل على ذلك، فقد تحولت جامعة الدول العربية من مؤسسة عربية تقود الاتجاه القومى إلى مجرد تنظيم إقليمى يكاد يمثل بقايا عصر انتهى من العمل العربى الدءوب والمتناسق لشحذ الهمم القومية، ولم يعد هناك حماس أصيل لأية مؤسسة قومية، وبدلا من ذلك اتجهت دول عربية عديدة إلى إحلال التعاون الثنائى أو الثلاثى محل التعاون الأشمل.
الواقع السياسى العربى يشير بالقطع إلى هذا التنافس الشديد فى الشخصية العربية بين الوطنية الجارفة والقومية الباهتة، فهناك اتجاهات قوية نحو القطرية والمصالح الذاتية تنعكس على السياسات العربية، مع الاحتفاظ بشعرة معاوية تجاه المصالح القومية دون أن يكون هناك حرص على ما تبقى منها أو إحياء ما أفل منها، والسؤال المهم هنا هل تماثل الاتجاهات القطرية الجارفة فى الدول العربية التحولات اليمينية المتطرفة فى أوروبا والتى يمكن أن تودى بالاتحاد الأوروبى كتجمع قومى لأوروبا؟ أم أن الشخصية العربية صارت حدية ولم تعد تقبل سياسات التوفيق والمساعى الحميدة؟ وهل صارت المصالح القطرية فى عصرنا على النقيض من المصالح القومية العليا؟ وكيف يمكن رأب الصدع والعودة إلى التوازن بين ما هو قومى وما هو قطرى؟
تثبت التجربة العربية فى بناء الشخصية أن الدين المشترك واللغة الواحدة والأنساب المتداخلة لا تكفى لترسيخ المصالح العليا للأمم، وإنما الأهم بناء المؤسسات التى تحمل على أكتافها تجذير التوافق والتعاون والاندماج وخلق حالة فكرية تصب فى وسائل التنشئة السياسية، مؤسسات لها مقومات البقاء والاستدامة وتجديد الذات لمواجهة تحديات التحولات الإقليمية والدولية. وعلى الرغم من انتمائى إلى جيل شغلته الهموم القومية وأحلام التكامل والوحدة، إلا أننى أتفهم بتعاطف التغيرات التى طرأت على الشخصية العربية المعاصرة وهى تغيرات حدثت تحت وطأة غموض النظام الدولى وسيولة النظام الإقليمى، فقد نجحت القوى المعادية بالفعل فى إثارة الشكوك حول جدوى حماية ما هو قومى.
ولا شك أن شكل العالم فى المستقبل سواء نجح فى خلق توازن قوى بين أطرافه أم استسلم للصراع والعنف ينعكس على مقومات الشخصية العربية، وربما يتجه الجيل الجديد من صناع القرار العرب إلى تقوية عناصر الوفاق والجذب بين الدول العربية مع تحقيق المصالح القطرية الملحة، تحتاج الشخصية العربية التحول من حالة الحدية المستحدثة إلى حالة التوازن بين كافة الانتماءات.