لم يكن من المتصور أن تقف جامعة الدول العربية موقف المتفرج على ما يجرى فى سوريا على امتداد الثمانية أشهر الماضية. كان عليها أن تتعامل مع الموقف، ولو فى نطاق الحدود الضيقة التى رسمها لها ميثاقها. أقر المجتمع الدولى على امتداد العقود الأخيرة الماضية مبادئ وقواعد وآليات للتعامل مع الجرائم التى ترتكب ضد الإنسانية، لم يأت على ذكرها بطبيعة الحال ميثاق جامعة الدول العربية الذى تم إقراره عام 1945. غير أن الدول الإفريقية استطاعت عن طريق القانون التأسيسى للاتحاد الأفريقى الذى تم إقراره عام 2005، أن تساير هذه التطورات، وتمنح الاتحاد حق التدخل فى أى دولة عضو به، وذلك فى حالة نشوء ظروف خطيرة مثل ارتكاب جرائم حرب، أو جرائم إبادة، أو جرائم ضد الإنسانية. وكان الاتحاد الأفريقى أول منظمة إقليمية تقر بهذا الحق صراحة فى ميثاقها، وما أحوجنا اليوم إلى أن تعكس المنظمة الإقليمية العربية، وهى جامعة الدول العربية، مثل هذا التطور، من خلال تطوير ميثاقها ليتلاءم مع متطلبات الأحداث التى تشهدها الساحة العربية، من ليبيا غربا، إلى سوريا شرقا، وإلى اليمن جنوبا.
إذن كان على الجامعة العربية أن تتعامل مع الموقف فى سوريا فى حدود ما خوَّله لها الميثاق. حرصت الجامعة على أن تؤكد منذ البداية، وفى مختلف القرارات التى صدرت عنها طوال الأزمة، على ضرورة أن يظل الحل فى النطاق العربى، رافضة أى تدخل أجنبى، أو أى محاولة لتدويل الأزمة. والمبدأ الثانى الذى التزمت به الجامعة هو التعامل مع الموقف بخطوات متدرجة ومحسوبة، تعطى الحكومة السورية الفرصة لكى تراجع نفسها، وتوقف نزيف الدم، وتدخل فى حوار مع كل أطياف المعارضة، بغية التوصل إلى كلمة سواء، وحل يرتضيه الجميع.
***
توجه الأمين العام للجامعة إلى دمشق حاملا تلك المطالب. ووافقت الحكومة السورية فى اجتماع لاحق فى الدوحة على وقف أعمال العنف، والإفراج عن المعتقلين، وفتح الباب أمام المنظمات ووسائل الإعلام للتنقل بحرية فى أنحاء الوطن السورى، للاطلاع على حقيقة ما يجرى. غير أن الحكومة السورية لم تف بما وعدت، بالرغم من أن السماح بدخول أجهزة الإعلام كان يمكن أن يساعدها فى إثبات ما دأبت على ترديده باستمرار من وجود عناصر مسلحة أو إرهابية تستهدف قوات الأمن والجيش، هذا بالطبع إذا كانت ما تدعيه صحيحا.
وإزاء ارتفاع وتيرة الأحداث، وازدياد أعداد الضحايا والمصابين، لجأت الجامعة إلى اتخاذ أولى التدابير فى حق النظام السورى. قررت الجامعة تعليق مشاركة وفود الحكومة السورية فى اجتماعات مجلس الجامعة، والمنظمات العربية، وذلك إلى حين قيام سوريا بتنفيذ التعهدات التى قطعتها على نفسها. كما دعت الدول الأعضاء إلى سحب سفرائها من دمشق، مع ترك الأمر لكل دولة عربية كى تقرر ما تراه فى هذا الشأن وفقا لمصالحها. وقررت أيضا الاتصال بالمنظمات العربية المعنية من أجل العمل على توفير الحماية للمدنيين. ونلاحظ هنا أن القرار قضى بتعليق مشاركة الوفود السورية، ولم يصل إلى حد تعليق عضوية سوريا بالجامعة، مثلما اتُخِذَ فى حق مصر عام 1979.
وفى سعى الجامعة لحماية المدنيين، ودون الإخلال بالمبدأ الذى التزمت به منذ البداية القاضى بعدم تدويل الأزمة، قامت بصياغة بروتوكول يحدد المركز القانونى لبعثة من المراقبين تقوم الجامعة العربية بإيفادها إلى سوريا، ويوضح مهام هذه البعثة. غير أن سوريا رفضت التوقيع على البروتوكول وطلبت تعديلات عليه، اعتبرتها الجامعة أنها تمس جوهر وثيقة البروتوكول، وتغير جذريا من طبيعة مهام البعثة. ولم تجد الجامعة مفرا من اتخاذ إجراءات أشد عن طريق فرض عقوبات اقتصادية على النظام السورى، تشمل تجميد الأرصدة المالية للحكومة السورية، ووقف التعاملات المالية معها، أو تمويل المبادلات التجارية الحكومية، وكذلك تجميد تمويل إقامة المشروعات، ووقف رحلات الطيران. هذا بالإضافة إلى منع سفر كبار الشخصيات السورية للبلاد العربية وتجميد أرصدتهم.
غير أن الجامعة العربية فى الوقت الذى أقرت فيه تلك العقوبات، حرصت على وضع عدد من الضوابط تستهدف ضمان عدم تأثيرها على احتياجات الشعب السورى، أو المساس بالأوضاع الاجتماعية وبخاصة قطاعات الصحة والتعليم، سواء كان ذلك فى سوريا نفسها أو فى الدول المجاورة لها (مثل لبنان التى نأت بنفسها بالفعل عن تلك القرارات، أو العراق الذى تحفظ عليها، أو الأردن الذى يمكن أن يطلب استثناء من بعض هذه الإجراءات). بالإضافة إلى ذلك تم استثناء السلع الاستراتيجية من قواعد الخطر، كما تم تشكيل لجنة للنظر فى تقرير أية استثناءات تتعلق بإجراءات المقاطعة. إذن جاءت قرارات المقاطعة العربية شديدة على النظام، رحيمة بالشعب، وحريصة على عدم المساس بحاجاته ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.
***
وبعد مقارنة سريعة بين إجراءات الجامعة العربية، والإجراءات المتخذة من قبل الاتحاد الأوروبى، أو الولايات المتحدة، أو تركيا، يتبين على الفور أن الإجراءات العربية جاءت أخف وطأة وأضيق نطاقا من نظيرتها الغربية أو التركية. فالاتحاد الأوروبى لم يترك قطاعا إلا وأخضعه للمقاطعة، فقرر فرض حظر على البترول السورى، وعدم الاستثمار فى أية مشروعات جديدة تتعلق بقطاع الطاقة، ومنع تصدير المعدات المتعلقة بقطاعات البترول والغاز والكهرباء، بالإضافة إلى عدم تقديم قروض للحكومة السورية سواء عن الطريق الثنائى أو من خلال المؤسسات المالية الدولية. كما ينطبق الحظر على شراء السندات الحكومية وافتتاح فروع جديدة للبنوك. هذا كله بالإضافة إلى تجميد أرصدة العديد من رموز النظام فى سوريا وفرض الحظر على تنقلاتهم. أما إجراءات المقاطعة الأمريكية فقد استهدفت قطاعى البترول والغاز، وحرَّمت أى استثمارات أمريكية جديدة فيهما، وفرضت أنواعا من الحظر على المبيعات والخدمات الأمريكية لسوريا، وكذلك عدم استيراد أية منتجات بترولية سورية، بالإضافة إلى تجميد أرصدة وممتلكات الحكومة السورية ورموز النظام فيها. وعلى الرغم من أن تركيا تعد أكبر شريك تجارى لسوريا، حيث يبلغ حجم التبادل التجارى السنوى بينهما نحو 2.5 بليون دولار، إلا أن ذلك لم يمنعها من فرض عقوبات اقتصادية مؤلمة، مثل تعليق كل التعاملات، الائتمانية، وتجميد أرصدة الحكومة والمسئولين السوريين وحظر سفرهم، ووقف جمع المعاملات مع البنك المركزى السورى. بالإضافة إلى ذلك منع عبور أى شحنات سلاح إلى سوريا عبر الأراضى التركية، أو عبر المجال الجوى التركى أو المياه الإقليمية لتركيا.
توضح تلك الإجراءات العقابية التى اتخذها الاتحاد الأوروبى، أو الولايات المتحدة، أو تركيا، أن الجامعة العربية كانت سبَّاقة إلى اقتراح آلية تستهدف إيجاد حل متكامل للأزمة السورية، عن طريق إيفاد مراقبين للاطلاع على حقيقة ما يجرى على الأراضى، من ناحية، ودعوة جميع الفرقاء للاجتماع من أجل الاتفاق على مخرج للأزمة من ناحية أخرى. كل ذلك فى الإطار العربى والحرص على تجنب التدويل.
لم يغتنم النظام السورى الفرصة، وتمادى فى أعمال القمع، الأمر الذى دفع مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة إلى إنشاء لجنة تحقيق دولية مستقلة للتحقيق فى الانتهاكات المرتكبة. أعدت اللجنة تقريرا تفصيليا من 47 صفحة عدَّدت فيه مختلف الانتهاكات، ومخالفتها للقانون الدولى لحقوق الإنسان، والقانون الإنسانى الدولى، والقانون الجنائى الدولى، وتقدمت إلى مجلس حقوق الإنسان بمجموعة من التوصيات أقرها المجلس فى اجتماع استثنائى عقد يوم 2 ديسمبر الحالى.
ربما يكون القرار الصادر عن المجلس قد فتح الباب على مصراعيه أمام تدويل القضية، وهو الأمر الذى سعت الجامعة العربية باستمرار على تفاديه. فبالإضافة إلى إدانة الانتهاكات، واعتبار أنها ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية، أوصى القرار بأن تقوم الأجهزة الرئيسية فى الأمم المتحدة (بمعنى مجلس الأمن والجمعية العامة) بدراسة تقرير لجنة التحقيق بشكل عاجل، واتخاذ الإجراءات المناسبة للتعامل مع ما تضمنه من توصيات. إلى جانب ذلك تحدثت المندوبة السامية لحقوق الإنسان عن إمكانية تطور الأمور فى سوريا إلى حرب أهلية ودعت المجتمع الدولى إلى اتخاذ التدابير اللازمة لحماية الشعب السورى.
وبالرغم من هذه التطورات بالغة الخطورة، فإن الوقت لم يمر كلية أمام النظام السورى كى يراجع موقفه، ويغلِّب صوت العقل، ويمنع انزلاق سوريا إلى طريق اللاعودة. هناك أصوات تطالب بإقامة مناطق عازلة داخل سوريا مجاورة للحدود مع تركيا، وتقترح فرنسا من ناحية أخرى ممرات آمنة للمعونات الإنسانية. مقترحات ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، لأن تطبيقها لا يمكن أن يتم إلا بالالتجاء إلى القوة المسلحة بكل المآسى المترتبة عليها، وبكل التداعيات الإقليمية التى يمكن أن تنشأ بسببها.
***
نداء يطلقه كل من يبغى الخير لسوريا، بأن يتوقف النظام عن ممارساته، ويقبل على الفور المبادرة العربية بكل عناصرها، ويتوقف عن تكبيل موافقته بالقيود أو يقرنها بالشروط. عندئذ فقط يمكن للنظام أن يقطع الطريق أمام مخاطر التدويل الذى هو كره لنا جميعا.