اجتمعت الأم مع عائلتها الصغيرة لتتدبر فى أمر الإقرارات الضريبية الأربعة الملقاة على المائدة. يعمل ابنها خمس عشرة ساعة يوميا ليغطى تكاليف مدرسة ابنه الأجنبية.
عندما توفى رب العائلة لم يترك لهم أموالا. إلا أنه بناء على نصيحة قريبه الأريب حينما توفر له مبلغا إضافيا دفع مقدم شقتين بالتقسيط على أطراف المدينة. بقيت إحداهما خالية حتى كبر الابن وسكنها حين تزوج. والأخرى انتفعت السيدة من إيجارها وفقا لقانون الإيجار الجديد.
والآن، بجانب المعاش الضئيل الذى تحصل عليه، أصبح لديها مبلغ شهرى يوفر لها حق قائمة الدواء الطويلة. وكأستاذ فى الجامعة، كان الرجل قد تقدم بأبحاث لجهات عربية وأجنبية عديدة، وأتاح له هذا الدخل الإضافى أن يشترى منزلا آخر فى الساحل الشمالى. والآن مع قانون الضريبة العقارية ستدفع السيدة المسنة (وابنها) ضرائب عقارية عن كل تلك المساكن. وإن لم يكن هذا العام فبعد خمسة أعوام. أثناء وقفتها الطويلة فى الطابور لتحصل على الإقرارات، استمعت السيدة لقصص كثيرة شبيهة بقصتها.. هى قصص مساتير الناس.
وتجد هؤلاء كلهم معترضين على القانون الجديد للضرائب العقارية. وهم هؤلاء الذين ترتفع أصواتهم الآن فى كل المنابر الإعلامية، حيث لا مجال للاعتراض إلا من خلالها. أما الفئة الأعلى دخلا فى المجتمع، من كبار رجال الأعمال وكبار المصنعين، فقد خاضوا النقاش من قبل، قبل إقرار القانون.
وهكذا تمت صياغته بحيث لا تكون الضربة موجعة لهم. تجد مثلا أن اتحاد الصناعات قدم للحكومة اعتراضاته على القانون قبل إقراره فى مجلس الشعب، وروعيت مطالبه. أما بالنسبة للآخرين، فهناك عدة انتقادات على فلسفته وشكله الحالى، وليس على المبدأ.
10% هو معدل الضريبة ــ والذى يحتسب وفقا لما يسمى القيمة الإيجارية. وهو معدل واحد للجميع. وهى صياغة وإن كانت أسهل فى إدارتها، إلا أنها تتميز بالانحياز للأغنى. على عكس الضرائب التصاعدية التى تأخذ من الأغنى نسبة أكبر من الأفقر. وفى كل الأحوال 10% هى نسبة كبيرة جدا، بالمقارنة مع الدول الأخرى.
كما أصبح وفقا للقانون من يملك بيتا ليسكن فيه كمن يملك عشرة. فكل وحدة تحاسب على حدة. فى حين كان الأحرى أن تتصاعد الضريبة كلما زاد عدد البيوت التى يملكها الفرد. كما أن إعادة التقييم كل خمس سنوات سرعان ما سيدخل فئات أقل دخلا إلى مجال دافعى الضريبة. نعم القانون الحالى بحيث يشمل كل البيوت التى بنيت فى المناطق السكنية الجديدة هو خطوة فى الاتجاه الصحيح. ولكن لماذا يستهدف القانون الجديد الفئة العليا من الطبقة الوسطى أكثر من غيرها؟ ليس الاختيار صدفة.
فخلال العقود القليلة الفائتة، نمت شرائح دخلية جديدة خاصة أولئك الذين يعملون برواتب عالية لدى الشركات متعدية الجنسيات أو موظفو القطاع المالى. هذه الشريحة لديها فوائض متراكمة. وتتجه تلك الشريحة وغيرها ممن لديهم مدخرات إلى توجيه مدخراتها إلى شراء البيوت.
ويعزى ذلك السلوك إلى إحساس شديد بعدم الثقة فى السياسات الاقتصادية، بسبب انعدام الشفافية وانعدام اتساق تلك السياسات. فتارة تكون الفائدة الحقيقية على الودائع فى البنوك سالبة وتارة أخرى ينفجر التضخم، أو تنهار قيمة الجنيه مقابل الدولار، فتنهار قيمة مدخراتهم. وبذلك أصبحت البيوت هى المخزن الأساسى للقيمة. مع أن الأصل أن يلجأ المرء للودائع البنكية أو صناديق الاستثمار فى البورصة. أما فى مصر فيوجد ملايين البيوت غير المأهولة (تتراوح التقديرات بين 1.2 ــ 3 ملايين).
يحتفظ بها أصحابها لوقت الشدة.. فمن أفضل من أولئك لكى تفرض الدولة عليهم ضرائب جديدة؟ خاصة أنهم ينتمون لطبقة غير مثيرة للقلائل بطبعها، بل وبطبيعة ارتباط مصالحها ولقمة عيشها بالاستقرار السياسى. وهى شريحة تم اختبار صمتها من قبل، عندما فرض قانون الضريبة على الدخل فى 2005 ضريبة على كل دخولها المتغيرة من حوافز وأجر متغير وكل ما هو فى حكم الدخل، بعد أن كان كل ذلك معفيا من الضريبة، ولم تتكلم أو ترفض أو تثر.
يشير البنك الدولى إلى أن تقبل الناس للضريبة العقارية أقل كثيرا من الضرائب الأخرى، كالضريبة على المبيعات مثلا. لأن العقارية عبئها أكبر وأوضح. كما أنها لا ترتبط بالدخل الفعلى الذى يحصل الفرد عليه. فأى عقار قد ترتفع قيمته مع مرور الزمن، نتيجة بناء سوق تجارية فخمة بجوار البيت، أو بسبب انتعاش سوق العقارات.
وبالتالى سيدفع المرء ضرائب أكثر، فى حين أن دخله كما هو لم يتغير. ولكن رغم هذه الاعتبارات، سيكسب وزير المالية فى الأغلب الرهان الجديد على جزء آخر من أموال المساتير، ولو بتضحية صغيرة عندما يقدم القانون للتعديل فى مجلس الشعب خلال السنة المقبلة كما قيل. وسيدفع الناس. ولكن الاحتقان سيزيد حتما.. خاصة بالنظر إلى تصميم القانون الذى قد يبتعد به عن هدفه الأصلى، ليخدم ربما أهدافا أخرى فى نفس «يوسف»، تتكشف بعد بضعة سطور.
فالأصل فى قانون الضرائب العقارية، أن كل مدينة أو مركز تذهب حصيلتها إلى تنمية تلك المدينة أو ذاك المركز. حيث يذهب سكان تلك البقعة جلهم إلى مدارس الحى، ويتنزهون معا فى نفس المنتزه الذى بنته لهم البلدية بأموالهم. فكلما شاهد الناس بأم أعينهم نتاج ما يدفعونه وينتفعون به فى شكل مستشفيات أفضل ومدارس أحسن وشوارع أنظف، كلما زاد تقبلهم لدفع الضريبة العقارية التى تثقل عليهم أكثر من غيرها.
هذا ما تؤكده دراسة للبنك الدولى نشرت فى مارس 2009. ولهذا فالأصل أيضا أن تكون حصيلة الضريبة العقارية فى يد السلطات المحلية، لأنها أكثر دراية باحتياجاتها. وبهذا المفهوم تساهم الضريبة فى تحقيق العدالة الاجتماعية. ولكن ما أبعد ذلك عن حالنا. فعلى طريقة «يا نحلة لا تقرصينى ولا عاوز منك عسل»، يفضل مساتير الناس ألا يدفعوا ضرائب طالما هم يتكفلون بتعليم وصحة أولادهم، بعيدا عن الدولة. فما البديل الذى اختارته الحكومة المصرية؟ بديل سيئ فى واقع الأمر.
اختارت الحكومة، بدلا من خوض المشوار الصعب وتحسين حال التعليم والصحة وإصلاح المحليات، أن تجمع وزارة المالية الضريبة وتخضعها لتصرفها وفقا للنموذج السائد حاليا، وهو ما يعنى أن تصب فى الموازنة العامة التى ينتفع من معظم مواردها الفئات الأغنى. وذلك رغم أن ممولى الموازنة هم بالأساس الطبقة الوسطى من الموظفين، والهيئتين الحكوميتين: قناة السويس والبترول، كما يلاحظ أحمد النجار فى تقرير الاتجاهات الاستراتيجية الاقتصادية السنوى الصادر منذ أسبوعين. تذهب إذن إلى وزارة المالية كل حصيلة الضرائب العقارية إلا الربع.. تحوله الحكومة إلى المحليات. وليس فى هذا لا تقليل من المركزية ولا تحسين توزيع الموارد على الاحتياجات المحلية. فكل هذا مما يتطلب تغييرا جذريا فى المحليات، لا يلوح فى الأفق القريب.
وأغلب الظن أنه ليس من قبيل الصدفة أن الوزير لم يتحدث عن ذلك الربع الذاهب إلى جيوب المحليات «ذات الفساد إلى الركب»، ولم يقر القانون أى تفاصيل عن ضمانات أو مجرد أوجه الصرف لتلك المليارات. ولكن هناك تزامنا مريبا ــ ولا نقول ترابطا ــ بين بدء تنفيذ الضريبة وعام الانتخابات الرئاسية، والتى أصبح للمحليات دور فيها بعد تعديل المادة 76 من الدستور. فهل هذا هو الغرض فى نفس «يوسف»؟ يا ليته لا يكون. ولكن الأكيد أنه نتيجة المساوئ التى تلف القانون سيظل الناس يرددون ولو بصوت خفيض «لا تضربنى فى عقر دارى».