مهمة الدولة فرض النظام!
ولكن نحن نعيش فى دولة تنازلت عن هذه المهمة منذ زمن، فأصبح حالنا على ما هو عليه الآن، خلعت الفوضى ملابسها ورقصت عارية فى الشوارع والميادين والطرق والجسور، وهى دائما لا تجد من يتصدى لها ويفرض عليها العقاب وإنما يحدث العكس، فهناك من يطبل لها وآخر يزمر حتى استحوذت على الجماهير الواسعة فشاركوها الرقص المفضوح المدمر.. وفى مصر إذا وُجد الخطأ وعاش ساعة واحدة صار صوابا، صار نموذجا يحتذى، وربما صار قانونا يفرض نفسه على «أتخن تخين» فى ظل هذا الهوان الذى أصاب الدولة وتخليها المتعمد عن القيام بدورها تجاه شعبها.
لقد نامت الدولة فى عسل السلطة وتركت جسدها الرخو المترهل لأصابع المدلكين مستمتعة بالخدر اللذيذ حتى غابت عنها الرؤية تماما فتحولنا من دولة متحضرة الى دولة متخلفة؛ ولأن علامات التخلف الحضارى ظاهرة بوضوح للقريب والبعيد فالأمر لا يقبل المزايدة أو حتى المجادلة، فهل يعقل أن مدينة كالقاهرة الكبرى يصل حالها الى هذه الدرجة من البؤس والانهيار؟!.
شوارع مهملة لا تصلح للسير وهى محتلة، وتخضع للسيطرة الكاملة من قوات عربات الميكروباص والتى أصبحت خارج السيطرة تماما وأصبحت فوق كل قانون بما فى ذلك قانون المرور الجديد وقانون الحياة نفسه. هل يعقل أن يحدث هذا فى الشارع المصرى؟!؛ جحافل من السيارات تجوب الشوارع وتتوقف كل خمسين مترا لتلتقط أحد الزبائن أو تسقط أحد الركاب.. وتغلق الشوارع تماما وتختنق ويختنق معها الناس، ويصبح القانون الذى ينفذ هو القانون الأقوى؛ قانون أصحاب هذه العربات. وللأسف هو قانون الفساد والتخلف والانحطاط، وكانت النتيجة أننا أصبحنا نعيش فى مدينة عبثية، القوانين فيها معطلة عن عمد؛ لأن الفوضى التى ترقص عارية تجمع «النقوط» وتوزعه على الأحباب، والأحباب فى سبيل هذا «النقوط» يفعلون أى شىء؛ يغلقون آذانهم بالشمع حتى لا يسمعوا صراخ الساخطين ويغلقوا أعينهم حتى لا يروا القبح الذى صنعوه!.
وقد حاولت جاهدا أن أتذكر ذلك «العشوائى» الذى جلب علينا هذه المصيبة وفرضها علينا فأصبح مثل من أحضر العفريت وعجز عن صرفه، فوجدت أنه نفس «العشوائى» الذى سرق الأرصفة من المشأة وأعطاها لأصحاب الدكاكين والأكشاك وصولا الى المكاتب الحكومية، وكانت النتيجة أن اختلطت الأقدام بالعجلات وأخرجت هذه المحال فضلاتها وقذارتها فى قلب الشوارع بلا رحمة حتى صار وجود «الزبالة» فى الشوارع أمرا مشروعا وحالة عادية، وهو أيضا نفس «العشوائى» الذى يسمح بمرور العربات التى تجرها الدواب فى شوارع القاهرة وفوق جسورها، وقبل أن أستطرد فى تذكر هذه المآسى والنكبات تذكرت الرجل الذى لم يتعلم من كارثة الميكروباص فبلانا بما يسمى «التوك توك».. إنه الوزير المرموق أو صاحب الفضل أو «العشوائى» الأصيل يوسف بطرس غالى وزير المالية الذى يحمل له السادة الأمريكان كل التقدير والاحترام.
وكل عدة أسابيع يخرج علينا هؤلاء الأمريكان بتصريحات وشهادات تقول: إن الوزير المصرى من أحسن وزراء المالية فى العالم أجمع حتى أصبحت هذه التصريحات دورية، فإذا كان الوزير عاشق «التوك توك» وراعيه الرسمى يحظى بهذ القدر من السمعة الطيبة عند الأمريكان فلماذا لا يأخذونه عندهم ومعه المصيبة التى جلبها إلى البلاد بدلا من وضعه الحالى فى مصر حيث يرقد على صدورنا كما ترقد صخرة المقطم على أهالى الدويقة؟ أيضا المصيبة التى أقصدها ليست هذه الوقفات الاحتجاجية المتكررة بين كل طوائف الشعب المصرى والتى يرجع السبب فيها إلى عشوائية السياسة المالية، وإنما أقصد مصيبة «التوك توك» تحديداً ذلك الفأر الأسود القبيح الذى ينشر طاعون التخلف والجرائم مع المشكلات، لمجرد أن هناك من يربح من استيراده أو تصنيعه، والحقيقة أن رعاية الوزير هذه أدخلته التاريخ بلا جدال، فهو كوزير للمالية سيذهب يوماً ما كما ذهب غيره وسوف يتم نسيانه.
ولكن اسمه الكريم سوف يظل محفوراً فى عقولنا باعتبار أنه الرجل الذى جاء إلينا بمصيبة، وأهل مصر يذكرون على الدوام الذين يجلبون المصائب.
وهكذا خلد الرجل اسمه ودخل التاريخ راكبا «توك توك»!.