قبل إعلان ما يسمى «صفقة القرن»، وبينما كنت أتابع نشرات الأخبار من خلال القنوات الدولية الناطقة بالعربية، إذ بالمذيع يقول ــ بعد أن انتهى من العناوين الرئيسية للنشرة ــ والآن ننتقل إلى أنباء متفرقة من أنحاء العالم، وهى عادة مجموعة من الأخبار الخفيفة أو الطريفة أو التى تحدث فى أماكن بعيدة عن المنطقة العربية كخبر عن هندوراس أو كولومبيا.
وقد بدأت هذه الأخبار المتفرقة بخبر عن قيام الطيران الإسرائيلى بقصف مواقع فى غزة يعتقد أنها تابعة لحركتى حماس والجهاد..
يا ألله.. كم تغيرت الدنيا.. قصف الطيران الإسرائيلى للفلسطينيين فى غزة أصبح من الأنباء الصغيرة المتفرقة.. هانت على أهلها أى محيطها العربى وليس شعبها المرابط فهانت على العالم حتى تجرأت أمريكا وإسرائيل على إعلان «إهانة القرن».. الرئيس السودانى يلتقى بنتنياهو بعد أسبوع من إعلان «صفقة القرن» ويعد بتطبيع العلاقات معها..
كم تغير العالم.. دونالد ترامب يتباهى بأنه جعل العرب أى أهل الخليج يدفعون ثمن حماية أمريكا لهم، والعرب يؤكدون ذلك علنا أيضا، فقد صدر تصريح من الرياض يفيد بأن السعودية تحملت نفقات نقل القوات الأمريكية إليها..
فى الماضى القريب كانت الدول تتوارى خجلا من مثل هذه العلاقات، بل وتغضب إذا ما وجه إليها تلميح فى هذا الصدد، وقد سبق أن كتبت مقالا بعنوان «مؤخر الأتعاب» تناولت فيه الرسالة الموجهة من الملك فهد رحمه الله إلى الرئيس السابق حسنى مبارك التى حملنى إياها المرحوم الأمير سعود الفيصل وزير خارجية السعودية آنذاك والتى يعبر فيها الملك عن استيائه من تصريح أدلى به المهندس حسب الله الكفراوى وزير الإسكان والتعمير فى ذلك الوقت بعد عودته من زيارة للكويت، ولا بأس من رواية القصة مرة أخرى باختصار..
***
بعد تحرير الكويت من غزو صدام حسين وبدء مرحلة إزالة آثار العدوان وإعادة إصلاح ما خربته الحرب، كانت الدعاية الغربية تصور الأمر على أن الكويت دُمرت وأن إعادة إعمارها يتطلب أموالا طائلة، وسارعت الشركات العالمية لمحاولة نيل نصيب من هذه الكعكة الكبيرة، وذهب المهندس حسب الله الكفراوى وزير الإسكان والتعمير فى ذلك الوقت ــ أطال الله حياته ــ على رأس وفد مصرى إلى الكويت لتقييم الأوضاع ودراسة ما يمكن للشركات المصرية المساهمة فيه، وعند عودته أعلن بطريقته الصريحة الثاقبة أن معظم العطاءات رست على الشركات الأمريكية وتجاوزت المائة مليار دولار، وأضاف وذلك بالرغم من أن الكويت لم تدمر كما يُقال بل أنه لم يجد «لوح زجاج واحد مكسور».. الكويت نُهبت ولم تدمر.. فقيل له «وماذا عن المائة مليار دولار» فقال «من الواضح أنها مؤخر الأتعاب»..
هذا التصريح أثار استياء شديدا لدى السعودية الأمر الذى جعل وزير خارجيتها يستدعينى على عجل فى رمضان وقبيل الإفطار بوقت قليل وكان بجواره مجلة المصور وعلى غلافها صورة الكفراوى وقال لى إنه قادم لتوه من مكة المكرمة التى يعتكف بها الملك فى العشر الأواخر من رمضان.. والملك مستاء جدا من هذه التصريحات المنسوبة لوزير حالى عضو بالحكومة المصرية..
***
كان ذلك فى التسعينيات.. فإذا عدنا أكثر إلى الوراء إلى عصر عدم الانحياز لوجدنا أن أحد معايير الانضمام إلى الحركة هو عدم انضمام الدولة إلى الأحلاف العسكرية وعدم وجود قوات عسكرية أجنبية بها..
كانت تثار أحيانا شبهات حول عضوية كوبا بالحركة على الرغم من انتمائها عقائديا للكتلة الشيوعية ولكنها لم تكن عضوا فى حلف وليس بها قواعد عسكرية..
كانت القواعد العسكرية سُبة تتبرأ منها الدول باعتبارها تتناقض مع استقلالها ومع قرارها الوطنى النابع من سيادتها.. الآن.. نجد دولا ترحب بوجود القواعد العسكرية الأمريكية وتحرص على استمرارها وتعرض استعدادها لتمويل وجودها.. حتى إسرائيل.. كانت تتبرأ من تهمة وجود قاعدة عسكرية أمريكية بها..
***
أذكر سجالا وقع بين ممثل إسرائيل فى اللجنة السياسية للجمعية العامة للأمم المتحدة وبين المرحوم إسماعيل فهمى ــ نجم الدبلوماسية المصرية الساطع ومؤسس مدرستها الحديثة ــ وكان فى ذلك الوقت رئيسا لوفد مصر فى اللجنة، وقد تحداه ممثل إسرائيل أن يقدم دليلا واحدا على وجود « قاعدة أمريكية» فى إسرائيل، وقد رد فهمى قائلا «إن إسرائيل نفسها وبأكملها هى قاعدة عسكرية أمريكية فى وسط العالم العربى».
***
كم تغيرت الدنيا.. فى الماضى ــ وبالرغم من هزائمنا المتكررة على جميع الأصعدة السياسية والعسكرية والثقافية والإعلامية.. إلا أنهم كانوا يحسبون حسابا للشارع العربى ويحذرون تعرض الحكومات الموالية لهم من غضبه.. الآن تهاوت نظرية «أن السماء ستقع على الأرض» وتهاوت التابوهات والخطوط الحمراء..
***
الصراحة أو الوقاحة هى سيدة الموقف.. نتنياهو يقول إن السلام نوعين السلام بين الديمقراطيات أى بين الدول ذات الأنظمة الديمقراطية المؤسسة على الديمقراطية والحرية والفصل بين السلطات والشفافية وحقوق الفرد وإرادة الشعوب وهذه لا يمكن أن تسعى إلى الحرب أو تهدد جيرانها..
والنوع الثانى من السلام هو السلام مع الدكتاتوريات وهذا السلام لا يقوم إلا بالردع والتفوق العسكرى أى سلام الخوف من العواقب وهو السلام الذى تعمل إسرائيل على تحقيقه وقد أنجزت منه قسطا كبيرا.
***
لى كتاب بعنوان «متفرجون أم لاعبون فى الساحة الدولية» من إصدارات دار الهلال كتبت فى مقدمته أن الناظر إلى الساحة الدولية يعرف من هم المتفرجون ومن هم اللاعبون، فمعظم دول عالمنا الثالث وعلى رأسهم جميع الدول العربية يجلسون الآن فى ساحة السياسة الدولية فى مقاعد المتفرجين.. يشاهدون اللاعبين ولكنهم لا يشاركون فى اللعبة إلا بالهتاف والتهليل أو الصفير والشجب ومدرجاتهم فى «الترسو» يسودها الهرج والمرج وتحكمها العاطفة ويميزها الصراخ والصوت العالى ولكن حتى هذا الصوت أصبح آخذا فى الخفوت.
ولكن وعلى الرغم من كل ذلك فإن ما نحن فيه ليس فطرة فطرنا عليها وإنما هو عارض من عوارض تداول الأيام بين الناس وأن ذلك ــ وإن كنا نجلس الآن حيارى نشاهد ولا نشارك ــ ليس قدرا مقدورا بل هو من صنع أيدينا وبإمكاننا أن نغيره إذا غيرنا ما بأنفسنا.. «والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون».