أظن أننا مازلنا نتذكر أن الشعار الأبرز لثورة الشباب فى الخامس والعشرين من يناير فى ليلتها الأولى قبل أن تتلقفها أيادى الساسة بألوانها وأغراضها المختلفة كان: «شغل، حرية، عدالة اجتماعية».
وها هى جثث شباب مصر قد عادت مرة أخرى للطفو فوق مياه الضفة الأوروبية للمتوسط فى نهاية عاجلة لرحلة السعى البائس خلف سراب البحث عن عمل، ربما يضمن لهم ولأسرهم حياة كريمة يأسوا من تحقيقها فى وطنهم، فألقوا بأجسادهم فى قوارب واهنة، يقودها قراصنة عتاة، بعد أن دفعوا آخر ما تبقى من زادهم مقدما لسماسرة محترفين.
فقد نشرت اليوم السابع يوم الخميس الماضى الموافق 7 إبريل أن «خمسة شباب مصريين قد لقوا حتفهم فى غرق مركب للهجرة غير الشرعية بالقرب من السواحل الإيطالية». وكانت الشروق قد سبقتها فى 22 مارس بنشر خبر عن أن السلطات الإيطالية «قد ألقت القبض على مركب هجرة غير شرعية قرب مدينة كتانيا فى جزيرة صقلية، وعلى متنه 128 مهاجرا غير شرعى من مصر بينهم 68 قاصرا».
فمازالت البطالة تدفع شبابنا لإحدى النهايتين: الموت أو السجن، فى إطار محاولات الخلاص من البطالتين: الحقيقية والمقنعة، وكلاهما لا يضمن حياة كريمة أو مستقبل واعد لطاقات مفعمة بالقوة والأمل.
ومن المصادفات العجيبة أن تاريخ نشر هذا المقال 11 إبريل يوافق يوم إنشاء منظمة العمل الدولية التى تأسست فى اليوم نفسه عام 1919، كرد فعل على الحرب العالمية الأولى مرتكزة فى أيديولوجيتها على أن السلام الدائم والعادل لا يمكن أن يتحقق إلا إذا استند على العدالة الاجتماعية. وما ينطبق على الصراع الخارجى بين الدول يصدق على السلام الاجتماعى الداخلى أيضا.
وقد ذكرت المنظمة فى تقريرها الصادر فى أغسطس 2010 أن نسبة البطالة ستتراجع على مستوى العالم فى عام 2011 إلى 12.7% لكنها استثنت من هذا الدول العربية الواقعة فى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا متوقعة أن تبقى ظاهرة بطالة الشباب لديها فى ارتفاع. ويؤكد هذا التوقع تصريح وزير المالية د.سمير رضوان الشهر الماضى بأن حوالى 66% من الشباب المصرى متعطل عن العمل، وأنه قد اطلع على مجموعة من الحلول المتوفرة لدى منظمة العمل الدولية للاستفادة منها. وأظن أن الوزير والمنظمة يدركان ويمكنهما إقناع الاتحاد الأوروبى بأن التنمية يمكن أن تكون بديلا ناجعا لإيقاف الهجرة غير الشرعية فى حالة توجيه الاعتمادات المالية للاتحاد لدعم اقتصاد الدول الطاردة بدلا من إنفاقها على الحلول الأمنية لمواجهة النازحين.
على أن ملف البطالة المصرى يرتبط بثلاث قضايا أخرى مهمة: أولها تثبيت العمالة المؤقتة التى تعمل تحت أكثر من مسمى منذ سنوات طويلة بمؤسسات الدولة دون حقوق قانونية تذكر، حيث يمكن لهذه المؤسسات إلغاء جميع أشكال التعامل معهم فورا دون إبداء أسباب، فمازالت الإجراءات المتخذة فى هذا المجال بطيئة ومقلقة لهذه الشريحة العريضة من الشباب.
وثانيهما قضية رفع الحد الأدنى للأجور، حيث تم إنشاء المجلس الأعلى للأجور لهذا الغرض عام 2003 لكنه لم يجتمع حتى الآن. وعند صدور حكم قضائى من محكمة القضاء الإدارى العام الماضى يلزم الحكومة والمجلس الأعلى للأجور بوضع حد أدنى للأجور يتناسب مع الأسعار، تراوحت التقديرات العشوائية للأجر الشهرى المقترح بين 400 و600 و1200 جنيه.
وقد وعد الدكتور البرعى وزير القوى العاملة بالانتهاء من الدراسة العلمية لتحديد المبلغ المناسب للحد الأدنى للأجر الشهرى خلال ستة أشهر، لكن عليه ألا ينسى تحديد الحد الأقصى للأجور أيضا، فى ظل ما أسماه شيخ الخبراء الإكتواريين الدكتور محمود عبدالحميد بالأجور الفاجرة التى كشفتها الثورة.
وثالثها توفير بيئة عمل أكثر إنسانية تضمن رفع اسم مصر من قائمة الدول التى تنتهك حقوق العمال حول العالم التى انضمت إليها منذ عام 2008، قبل أن تأتى فى تقرير منظمة العمل الدولية العام الماضى ضمن أسوأ 25 دولة تنتهك حقوق العمال فى العالم.
وفى إطار حصول العمال على هذه الحقوق يمكن مطالبتهم ببعض الواجبات الصعبة التى تعد من البديهيات عالميا مثل: الالتزام بساعات العمل المحددة، والمطالبة بالإنجاز الفعلى وليس بالتواجد فقط الذى قد يعوق الآخرين عن العمل، والاقتناع بأن المكافآت ترتبط بالأداء الاستثنائى المتميز وليست نسبا ثابتة تصرف مع الأجور.
فصحيح أن قلوب المصريين تدمى لشهداء الوطن جميعا، لكن شتان ما بين شهداء يرفعون اسمه عاليا كشهداء الثورة، وشهداء يفضحون واقعه المر كشهداء البطالة.