نشرت جريدة المغرب التونسية مقالا للكاتبة آمال قرامى تحدثت فيه عن بعض الممارسات غير الأخلاقية التى تتم فى ظل أزمة الوباء الحالية والتى أرجعتها إلى سيطرة الرأسمالية على الفرد فأصبح كل همه جمع وتكديس ما يضمن له حياته غير آبه بالآخرين... جاء فيه ما يلى:
ما أكثـر المفارقات والتناقضات التى نعيشها خلال هذه الفترة الحرجة التى تمر بها بلادنا بل الإنسانية قاطبة! ففى الوقت الذى تضاعفت فيه المبادرات المعبرة عن إيمان قوى بالقيم المثلى وفى مقدمتها التضامن، والرحمة... وعن رغبة فى تحقيق الانسجام بين مختلف الشرائح الاجتماعية، جاءت الأخبار والشهادات والخطابات التى تعرى واقعا مختلفا وتفضح ممارسات قلما انتبهنا لها. فهذه فئات لا تجد غضاضة فى ممارسة الفرز والتمييز وتوسيع دائرة الانقسامات وإحداث الفجوات وبناء الجدران العازلة بين الناس على أساس العرق أو الطبقة أو السلامة الجسدية أو... وهى لا تتوانى عن إبراز مدى الكره الذى تكنه للآخر فتشتم التونسيين المقيمين بالخارج الذين قرروا العودة أو العالقين ببعض البلدان، وتلعن المطالبين بتسريع وتيرة سفرات الإجلاء. وفى السياق نفسه عثرنا على من طرد الطلبة الأجانب وحولهم إلى مشردين بل اعتبرهم بلاء و«وباء أزرق»، ورأينا من استغل السياق ليحقق المكاسب والغنائم وهنا يستوى «المعتمد» و«الأمنى» وغيرهما من المسئولين مع الرجل الذى أوهم الناس بعوزه فبكى بحرقة لتحقيق مأربه أو المرأة التى وقفت بوجه من أراد دفن عزيز له وهنا لا تعوزنا الأمثلة.
لاشك عندنا أن غريزة حب البقاء ومشاعر القلق والخوف من المجهول، حين تستبد بالناس تحولهم إلى محترفى صناعة الأعداء بل وحوش كاسرة. فمن يُهدد سلامتى وأمنى هو الآخر الذى يجب أن أستبعده مهما كان الثمن. ولكن غياب الحس المجتمعي، وضمور الممارسات المعبرة عن التضامن الإنسانى وغيرها من السلوكيات قد يفسره البعض بالمنوال الاقتصادى الذى هيمن على المجتمعات المعاصرة (الرأسمالية المتوحشة، النيوليبرالية...) فحول الفرد إلى أداة وجرده من إنسانيته فصار لا هم له سوى جمع ما به يضمن حياته أو يحقق طموحاته فى مجتمع استهلاكى يغرى بتكديس الأشياء.
غير أن استلاب الناس وذوبانهم فى عالم تهيمن عليه القيم المادية، مجرد من ضوابط ‹التحضر› وشروطه، وتعويلهم على أنفسهم لتحقيق «الخلاص الفردى» يشى كذلك بضياع البوصلة، والضوابط والقوانين المجتمعية والمضامين التى تؤسس المجتمع وهو أيضا مخبر بسقوط المؤسسات العاضدة للمجتمعات. ولعل توارى مفهوم «المجتمع» وتشظى الحياة الاجتماعية وتدمير الأسس التى يقوم عليها المجتمع جعل الناس لا يستدعون هذا ‹البراديغم› عندما تلم بهم النوائب ولا يؤمنون بأن وجود الفرد مرتبط بوجود المجتمع، وأن السلامة، فى زمن المخاطر والكوارث... لابد أن تشمل الجميع وأن السلوك لا بد أن «يتأنسن». فمن حق الجميع أن يستمتعوا بالحق الطبيعى فى الحياة... ومن حقهم أيضا أن يموتوا بكرامة، وآية إكرام المرء دفنه.
إن ما نعاينه من عنف، وهدم للنماذج والمثل، وتقوقع على الذات وتعصب وغيرها من الممارسات «البربرية» وتنكر للقيم الإنسانية الكونية أو على حد عبارة آلان توران «Alain Touraine» «اندثار المجتمعات» يحفز واضعى السياسات التعليمية والاجتماعية والإعلامية والثقافية وغيرها على التفكير فى إعادة النظر فى المضامين والتوجهات، والاستعداد للقيام بالمراجعات والتعديل فى ضوء السياق الجديد. فلا يمكن بأى حال، أن ندعى أننا قادرون على استئناف الحياة ‹الطبيعية› وكأن شيئا لم يحدث. فمن لم يستخلص الدروس، ومن لم يتعلم من هذه التجربة، التى هى فى ظاهرها أزمة صحية ولكنها على مستوى أعمق من القراءة، مجموعة من الأزمات المتشابكة، لن يكون بإمكانه مواكبة التحولات العالمية التى ستشهدها الإنسانية بعد أزمة ‹الكورونا›.
من السهل أن ننتقد سلوك المتمردين على الحظر الصحى وأن ننعتهم بانعدام الوعى، والجهل، وأن نعتبرهم مجرمين وأعداء للوطن... من السهل أن نشتم ونلعن ولكن من الصعب أن نفكك العوامل التى أدت إلى ظهور هذه التركيبة من الشخصيات وأن نحلل البنى الذهنية التى تحيط بهذا السلوك الانتحارى. ولعل أخطر ما فى الأمر أن نخرج من الحظر فنجد الخواء والصمت. وفى ظل غياب الفاعلين السياسيين والاجتماعيين والافتقار إلى البرامج والأفكار وغياب المعنى وظهور الصدمات قد يكون الرجوع إلى الأفضية المغلقة هو الحل الأفضل.