إبراهيم عوضأثارت كلمات أدلى بها وزير الخارجية نبيل فهمى فى الولايات المتحدة زوبعة من التعليقات، تولاها بالرد الوزير نفسه والفريق العامل معه. التعليقات كانت على الألفاظ المستخدمة، غير أن جوهر تصريحات نبيل فهمى هو أن مصر حريصة على علاقات مستديمة وجيدة مع الولايات المتحدة، وهو حرص طبيعى من قبل أى دولة، فأى عاقل ذاك الذى يستهتر بالقوة الأعظم فى العالم، حتى وإن كانت الفاعلية النسبية لهذه القوة الأعظم فى تراجع؟
•••
أسف البعض عن إخلاص لما يمكن أن ترتبه تصريحات الوزير من آثار على العلاقات المتزايدة فى الدفء مع روسيا، باعتبار أن روسيا يمكن أن تغضب من تقديم مصر للولايات المتحدة عليها وأن تكف بالتالى عن تدفئة علاقاتها مع مصر. الواقع أن هذا إدراك يجانبه الصواب لدور روسيا فى النظام الدولى الحالى. روسيا لا ترى فى نفسها منافسة للولايات المتحدة بل إنها لا ترى فى التنافس على الهيمنة مفهوما أساسيا فى العلاقات الدولية الراهنة. ليس لدى روسيا معسكر تستند إليه فى سعيها للهيمنة كما كان حال الاتحاد السوفييتى ومعسكره فى وسط وشرقى أوروبا. هل يمكن أن تتطلع إلى الهيمنة بدون معسكر تستند إليه؟ الولايات المتحدة لديها التحالف الأطلسى وترتيبات عسكرية مع عديد من الدول. روسيا تتحرك حرة من الالتزامات، وهى لا تريد التزامات، ولكنها تعرف كيف تحافظ على مصالحها وتحميها عندما يحاصرها الآخرون. روسيا لا تضيرها تصريحات.
إلا أن كلمات نبيل فهمى والزوبعة المثارة حولها كانت فرصة اغتنمها البعض الآخر للتفكر فى التطور فى العلاقة بين مصر والولايات المتحدة، على ضوء التحرك الخارجى لمصر، وما يكشف عنه هذا التحرك من إعادة لهندسة علاقاتها الخارجية.
•••
للعلاقة مع الولايات المتحدة تأثير على مجمل علاقات مصر الخارجية والعكس صحيح. فى الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، فى ظل القطبية الثنائية فى النظام الدولى، تراجعت المساحة التى شغلتها الولايات المتحدة فى العلاقات الخارجية لمصر وتمددت المساحة التى شغلها الاتحاد السوفييتى، وإن شغلت مساحات معتبرة إلى جانبه مجموعة الدول التى تزعمت حركة عدم الانحياز، ودول القارة الأفريقية بعد تصفية الاستعمار، ناهيك عن الدول العربية التى لها مكانة طبيعية خاصة فى علاقات مصر الخارجية. عند منتصف السبعينيات، وقع انقلاب فسلمت مصر بأن 99 فى المائة من أوراق حل أهم مشكلاتها على الإطلاق، وهى احتلال أراضيها والصراع العربى الإسرائيلى الأشمل، هى فى يد الولايات المتحدة. كان من الطبيعى والحال هذه ألا تبقى مساحة فعلية ومؤثرة تذكر لأى فاعل آخر بخلاف الولايات المتحدة، وبالفعل تراجعت فى العقود التالية أدوار كل الفاعلين الآخرين حتى كادت أن تتلاشى. ماذا كانت النتيجة؟ صحيح أن مصر استعادت أراضيها، ولكن لم تحدث تسوية للصراع العربى الإسرائيلى، وبالتالى لم تنشأ علاقات سلام وتعاون حقيقى فى منطقتنا، ولا وقعت تنمية سمحت برفع مستوى معيشة المصريين، وهى التنمية التى كان تحقيقها اعتبارا أساسيا آخر فى تسليم أوراق حل مشكلة مصر الأهم للولايات المتحدة، ثم فى الحرص على استمرار القرب منها لعقود من الزمن.
•••
فى أعين مراقبين كثيرين، و بعد أربعين عاما يبدو فشل المقاربة التى أخذت بها مصر منذ منتصف السبعينيات جليا لا يحتاج إلى برهان. ولكن ما هو تقدير السياسة الخارجية المصرية لهذه المقاربة، ولنتائجها، ولمستقبلها؟ التقدير ضمنى، وهو يكشف عنه التحرك الخارجى المصرى فى الشهور الأخيرة. رئيس الجمهورية تردد على الخليج، ورئيس الوزراء السابق زارها كذلك، أما رئيس الوزراء الحالى فكانت أول زيارتين خارجيتين له لبلدين أفريقيين. ولكن التحرك الخارجى للمسئول عن السياسة الخارجية يضيف جلاء لإعادة هندسة العلاقات الخارجية لمصر. فضلا على روسيا، زار وزير الخارجية عدة دول أوروبية، إسبانيا، وإيطاليا، وألمانيا، وهولندا. واضح أن هذه الزيارات كانت لتبديد التحفظ الأوروبى على تغييرات 3 يوليو 2013، ولكن فى هذا التبديد نفسه وفى مجرد تحقق هذه الزيارات إضافة إلى القدرات الخارجية المصرية. وتحرك وزير الخارجية إلى أفريقيا كما لم يتحرك وزير آخر منذ ما يقرب من ربع قرن، فزار خلال فترة قصيرة السنغال، وغينيا، والكونغو، وتنزانيا، وجنوب السودان. ومن بين الدول العربية، زار وزير الخارجية لبنان، والسودان، والجزائر، فضلا على دول الخليج. وفى آسيا، وصل التحرك الخارجى المصرى إلى الهند، والصين، وكوريا، واليابان، أى إلى أهم الدول الآسيوية وأكبرها. التحرك الخارجى المصرى يؤدى لا محالة إلى تخفيض الوزن النسبى للولايات المتحدة فى العلاقات الخارجية المصرية، دون أن يعنى ذلك بالضرورة انتقاصا من القيمة المطلقة لوزنها. التوازن بين أقاليم العالم والتركيز على قارتنا الأفريقية المهملة منذ عقود يبين أن التحرك ليس اعتباطيا، بل إنه قصدى. هذا التحرك استفاد من عناصر قوة مازالت باقية لمصر بالرغم من أنها منهكة فى الوقت الحالى، ولكنه، وهو الأهم، بناء لعناصر قوة تفيدها فى المستقبل، وتحد من اعتمادها غير الصحى فى درجته على الولايات المتحدة. فى التحرك نحو آسيا اتجاه نحو الإقليم الصاعد فى العالم الذى لن يلبث خلال فترة قصيرة أن يكون ذا الوزن الأهم فى الاقتصاد العالمى. وفى التحرك نحو أفريقيا إعادة لتثبيت أقدام مصر فى قارتها بما ينمى قوتها لأن المصادر الخارجية لقوة مصر تكمن أولا فى إقليميها العربى والأفريقى، ثم إن هذا التحرك يفيدها فى التعامل مع قضية مياه النيل، فعلاقات مصر مع قارتها الأفريقية هى الغلاف الذى يحوى داخله علاقات مصر بدول حوض النيل، وخاصة إثيوبيا التى تستضيف عاصمتها مقر المنظمة الإقليمية الأفريقية الجامعة. الاقتصادى والفيلسوف الهندى الحائز على جائزة نوبل فى الاقتصاد، أمارتيا سن، عرف التنمية على أنها زيادة الاختيارات. الفقير والمتخلف يضطر إلى قبول ما هو متاح له. أما المتحرر من الفقر الذى نمى قدراته فهو يستطيع الاختيار بين بدائل. التحرك الخارجى المصرى فيه تنمية لقدرات السياسة الخارجية المصرية، وهو من ثم توسيع فى نطاق الاختيارات المتاحة أمامها، وتحرير لها.
غير أن أى قدرات خارجية ستذهب هباء بدون أساس داخلى صلب تستند إليه. النظام السياسى الذى ستبنيه مصر استنادا إلى دستور 2013 المعدل، وتطبيقا له، سيكون هذا الأساس الداخلى الصلب أو لن يكون. النموذج الذى ستقدمه مصر لا بد أن يكون نظاما ذا قاعدة سياسية واسعة ومتنوعة، نظام يوجد قنوات التفاعل بين القوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية المختلفة ويشجعها. النظام السياسى ينبغى أن يفرز ثقافة سياسية منفتحة تقبل الآخر الداخلى والخارجى، وتثق فيه، وتحث على التفاعل معه، من أجل تحقيق الإثراء المتبادل والمشترك للجميع. فى ظل مثل هذه الثقافة السياسية، انتجت مصر الثقافة، وأشعت، وبنت قوتها الناعمة التى أطلت بها على عالمها العربى، وعلى أفريقيا، وعلى أجزاء كبيرة من آسيا بل وعلى السواحل المقابلة للبحر المتوسط، قوة ناعمة ما زالت ذات أثر لا يستهان به فى علاقات مصر الخارجية.
•••
من المهم الإبقاء على علاقات جيدة مع الولايات المتحدة فليس من الحكمة أن تكون العلاقات سيئة مع القوة الأعظم فى العالم، حتى وإن صارت أقل فى القوة النسبية فى النظام الدولى المتغير حاليا