الموجة الأولى
الجمعة ٤ فبراير، صباحا
فى طريقى إلى التحرير. العائلة كلها هناك. صار تقليدا: الجمعة والثلاثاء مليونيات. الجمعة الماضية ٢٨ يناير، كانت «جمعة الغضب»، واليوم «جمعة الرحيل» ــ رحيل مبارك نأمل. وصار تقليدا أيضا أن صلاة الجمعة فى التحرير يعقبها قداس ــ ويشترك المصلون جميعا فى ترديد «آمين». الشيخ مظهر شاهين، إمام جامع عمر مكرم، الشاب يعبر عما يشغل الناس، ويربط بين أعمالنا والقيم الروحية. يوجه خطابه للـ«مصريين»، ويذكر، فيما يذكر، قدوة السيد المسيح. يختم الصلاة بـ«اللهم ثبتنا! اللهم أعد لنا حقوقنا! لا نريدها حربا بل نريدها سلاما! اللهم فاشهد أننا نحب هذا البلد ونحب ترابه. اللهم أعد لنا كرامتنا! اللهم وحدنا! اللهم احقن دماءنا!».. ولا تهدر أمانينا المشتركة فى أرجاء الميدان.
القضايا التى نحاول حسمها فى شوارع مصر قضايا تهم العالم أجمع، وأكثرها إلحاحا اليوم: هل يمكن لثورة شعبية، تصر على أن تكون ديمقراطية، قاعدية، جمعية، سلمية ــ هل يمكن لها أن تنجح؟
الرابعة بعد الظهر
وفود جاءت من مختلف مدن ومحافظات البلاد. عطل النظام القطارات، لكن الناس وصلت على أى حال. أعلام ورايات من الإسكندرية وأسيوط والبحيرة وبورسعيد وسوهاج والسويس وغيرها ترفرف فى الميدان، والهتاف يملأ الفضاء: «الشرعية من التحرير».
الثامنة مساء
بقى البلطجية فى الشوارع الجانبية. الشباب يحمون الميدان، فالميدان يوفر اليوم، كما وفر فى كل يوم لم يكن فيه قتال ــ يوفر مساحة للتلاقى والنقاش. أفكار كثيرة تتبلور وتناقش؛ الأكبر سنا فى الأغلب لازال عندهم أمل فى الديمقراطية، يتشوقون إلى الانتخابات الشفافة النزيهة، إلى الحكومة التى تمثل الشعب، إلى كل ما تمنوه طيلة أعمارهم. أما الشباب فبعضهم يقول إن هذه المرحلة قد انتهت، انتهت بالنسبة للعالم كله، إن صيغ الديمقراطية القديمة لم تعد مناسبة أو مجدية، إن فى العشرين سنة الماضية أتت كل الحركات الفعالة من خارج الأطر التقليدية، وأن الهياكل والأنماط الجامدة للدولة من جانب والقوة المتحركة والمنسابة لرأس المال من الجانب الآخر لا يمكن أن يتعايشا بدون أن يؤدى هذا إلى القمع.
ما يحدث فى التحرير الآن هو عكس «الخواء السياسى»، عندنا سوق من الأفكار والنظريات والآراء. الميدان حافل بالأمل وبالأفكار، وشبابنا الشهم يؤمنه ويحميه.
السبت ٥ فبراير
يختطفون الناس من حواف الميدان. شاباتان من الناشطات حاول البلطجية اختطافهما، فتدخل ضباط من القوات المسلحة وأنقذوا الشابتين وهربوهما فى سيارة إسعاف. ستة من النشطاء اختفوا تماما.
ليتنى أستطيع أن أبقى فى الميدان طول اليوم، لكن على أن أقوم بالكثير من اللقاءات والحوارات. لا أكف عن الحديث. سئمت صوتى، وهو على كل حال قد تعب وصار من الصعب سماعه. أحمد الله على غياب قواعد المرور وشرطة المرور. أقود السيارة من أقصر طريق وأتركها فى أقرب نقطة وأدخل المكان جريا وأتحدث ثم أجرى خارجه وأبدأ من جديد.
أقرأ شهادة صديقنا ميسرة: اختطفه البلطجية فى شارع طلعت حرب، لكن الذى ضربه كان الجيش، وفى المتحف المصرى. نقلوه من مكان لآخر فى سيارة إسعاف وكانوا يضربونه داخلها. يقول إن ليس كلهم ظالمون أو مفترون، وأنهم بالفعل يعتقدون أن الثورة يحركها عملاء لقوى خارجية.
يصلنا أيضا تأريخ مفصل لسيرة حياة نائب الرئيس الجديد ورئيس المخابرات المزمن، اللواء عمر سليمان، ومسيرته المهنية. يفصل التأريخ تورطه الواسع والشخصى والعميق فى التعذيب. الميدان بالطبع يعرف كل شىء: «لا مبارك ولا سليمان، مش عايزين عملاء كمان».
لا أخبار بعد عن أحمد سيف وزملائه، أو بالأصح نعرف أن المخابرات العسكرية تحتجزهم ولا نعرف شيئا آخر. أثناء اختطافهم ترك أحدهم محموله مفتوحا وعندنا الآن نص لما سجله؛ مرة أخرى الاتهامات بالعمالة والجاسوسية: «إذا طلعتوا الشارع دلوقتى الناس هتقتلكم، هم عارفين انتو إيه».
أحتاج أن أذهب للميدان لترتفع روحى المعنوية، لكن الوقت لا يسمح. أنهى الحديث مع البى بى سى العربية، وأسرع إلى البيت لاستقبال فريق قناة تليفزيون هندية. كنت قد اقترحت أن أذهب إليهم فى فندقهم، فى الماريوت، لكنهم قالوا إنهم هددوا وقيل لهم أن الفندق عنده تعليمات بألا يسمح لهم بالتصوير. لست مرتاحة لكنى أرحب بهم، بعد دقيقتين يرن جرس الباب مرة أخرى، أفتح الباب فأجد ابنة البوابة تسألنى من السيدات اللاتى دخلن عندى؟ لا أكاد أصدق السؤال. أجيب باختصار: «ضيوف.» تقول «ده بيتك طبعا بس المباحث لفوا على الشارع وبيسألوا مين عايش فى كل شقة وبيسألوا عن الأجانب وعن أى حد بيتعامل مع الإعلام واحنا لازم نبلغهم لو فيه أجانب أو لو فيه إعلام جه هنا. ضيوفك حتقعد قد إيه؟» أقول «هيقعدوا على قد الزيارة». «أغلق الباب وأقدم لهن الشاى وأطلب عمر فى التليفون فيقترح أن نبيت عند أخى الليلة. حين ننتهى من التسجيل أطلب من الشابتين أن تنتظرا». «أجمع حاجاتى الضرورية فى حقيبة صغيرة وأغادر معهن. هذا البيت بيتى منذ كنت فى السابعة، والآن، للمرة الأولى، أشعر فيه بالقلق والغربة».
عامل الجراج يضطر إلى تحريك سيارة الدفع الرباعى مرة أخرى. أعتذر وأقول إنى لم أكن أنوى الخروج ولكن عندنا ظرفا عائليا ولن أعود الليلة. أدير الموتور ويتصل بى برنامج «الديمقراطية الآن» فعندى لقاء مجدول معهم. لا أريد أن أحادثهم وأنا أقود السيارة فى ظلام حظر التجول. أجلس فى السيارة فى مدخل الجراج المعتم وأحادث الناشطين الأمريكيين لمدة ساعة.
الثلاثاء ٨ فبراير
صورة أبيض وأسود صغيرة مشققة: أسرة أبى منتشرون على المدرجات الخضراء لحديقة الأندلس. شىء يشدنى إلى هذه الصورة: جدتى، نينا بابا، فى بالطو داكن محافظ تجلس على النجيلة، ساقاها ملمومتان بأناقة، وتجلس ابنتاها كل واحدة إلى جانب منها. أبى الصغير، يداه فى جيبى بنطاله القصير، يقف على مسافة من الجماعة ومنفصل عنها، مترفع عنها قليلا فى ذلك الوضع الذى سيلازمه مدى الحياة. كانوا هناك، على تلك الدرجة المقابلة لى وأنا أجلس مع عمر نتشارك فى دكة مشمسة.
نحن هنا فترة وجيزة، ابنى وأنا، لحظة مارة اقتنصناها حين قلت، وهو يوصلنى من سيارتى إلى التحرير «ممكن ندخل هنا دقيقة؟ متهيألى ماجيتش هنا من لما كان عندى عشر سنين.» قال «طبعا»، وألقى نظرة سريعة إلى شاشة محمولة. نمسك بأكواب الشاى الساخن ونتشارك ــ ونعرف أن هذا خطأ ــ فى سيجارة. أحمد شوقى، أمير الشعراء، فى تجسد من الحجر الجيرى يجلس متفكرا إلى يميننا. النيل يجرى وراءنا، والشمس تدفؤنا، ونتحدث عن الحفلات الموسيقية والعروض السينمائية التى يمكن أن تقام فى هذا المكان. الآن كل شىء ممكن، هذه هى درجة الثقة التى نتمتع بها، كل شىء ممكن، المسألة مسألة وقت، ربما ساعات. فى السنوات العشرون الأخيرة كان الشعور الذى يغلب على كلما مريت بحدائق الأندلس هو الخوف؛ الخوف من أن أحد المقربين من النظام سيتمكن من الاستيلاء عليها واستغلالها كما استغلوا أراضى ومناطق وبحيرات. كنت أبحث عن علامات تدل على التجديد أو الاهتمام، وأرتاح حين أرى لافتة البلدية القديمة المتربة لازالت فى مكانها. اليوم اختفى هذا الخوف وأجدنى أحلم بحفلات الموسيقى، حفلات تقام بالناس وللناس فى مدينتنا التى استعدناها.
عمر يجيب على هاتفه. لو نزلت الدرجات التسع إلى هذه الباحة المسرحية الجميلة ثم مررت خلال حوض النافورة المستطيل وصعدت ست درجات على الناحية الأخرى سأكون بالضبط فى مكان جدتى، وإلى جانبى أبى الطفل. صورة أبيض وأسود صغيرة مشققة. منذ طفولتى وهى تجتذبنى: ها هى الحديقة مميزة مألوفة لم تتغير، فيما عدا أن فيها كان يقف أبى طفلا. هناك صور أخرى لأبى، فى زى الكشافة بالصحراء، أو مع أسرته أمام الأهرامات، أو فى مركب على خلفية النيل. لكن هذه الأماكن كانت من المعطيات، أجزاء دائمة من حياتى، أعرف أننى أتشارك فيها مع الدنيا كلها منذ بدء التاريخ. هل هذا هو إذا؟ أن هذا الركن الصغير المركب المحدد جدا من منطقتى فى مدينتى يظل على هذه الدرجة من الثبات فى حين أنى أرى التغيرات الضخمة فى الأربعة أشخاص المصورين على خلفيته؟ جدتى، نينا، عجوز وصارمة منذ عرفتها ومع ذلك ــ ها هى ذكرى: أنا أتلاكع وراء ظهرها فى مطبخ شقة عابدين، وهى أمام الموقد تسوى لى سد الحنك، تحمر الدقيق والسكر بسرعة فى الزبد ثم ترص سد الحنك بالملعقة على شكل بتول زهرة فى طبق صغير. آكله فى الشرفة الصغيرة التى منها أرى القصر الذى يصور أيضا فى الكتاب المدرسى المفتوح أمامى. ها هى الأسوار الحديدية ووراءها المبنى المترامى الأطراف، وبين السور والقصر الحوش ــ هو خالٍ الآن لكنه فى كتابى ملىء بالناس: إلى اليسار يقف الخديوى توفيق، يحفه من الجانبين السير تشارلز كوكسن والسير أوكلاند كولفن، وإلى اليمين فى مواجهته حشد من قوات الجيش المصرى، البعض مترجل والبعض على خيولهم. على رأسهم يقف أحمد عرابى وهو فى لحظة إعادة سيفه إلى غمده. أقرأ عنوان الصورة: «لسنا عبيدا لأحد ولن نورث بعد اليوم، ١٨٨١». قالوها من مائة وعشرين عاما، ونقولها مرة أخرى اليوم.