لعل السمة الأبرز لعلاقة المجتمع بالنظام الحاكم خلال السنوات الخمس الماضية فى مصر هى تدهور مستويات القلق! أى أن نوعية القلق نفسه قد تدهورت من الخوف على مستقبل الديمقراطية التى بدت أنها وليدة فى ٢٠١١، إلى الفزع على مستقبل أبجديات وأركان الدولة نفسها التى أصبحت مهددة بالفعل فى ٢٠١٦ حتى لو اختلفنا على مصادر وأسباب هذا التهديد.
فى الفترة بين ٢٠١١ و٢٠١٢ كانت تشغلنا قضايا مثل «التعددية الحزبية»، «نزاهة الانتخابات»، «كسر الصمت الانتخابى»، وبين ٢٠١٢ و٢٠١٣ أصبحت تشغلنا قضايا مثل «تحصين الرئيس»، «الانفراد بكتابة الدستور»، «العلاقة بين الدولة والدين»، «أخونة الدولة»، «حقوق الأقليات»، ثم بين ٢٠١٣ و٢٠١٤، تدهورت مستويات القلق إلى نسيان قضية الديمقراطية وكل ما هو مرتبط بها من مفردات، لننشغل قلقا بقضايا مثل «حقوق الإنسان»، «تغول الآلة الأمنية»، «الحرب الأهلية»، «العلاقات المدنية الأمنية»، «مصير سوريا والعراق»، «الإرهاب»، أما الآن فبالإضافة إلى ما سبق فنحن بالفعل منشغلون خوفا وقلقا، ليس فقط على «مدنية الدولة» ولكننا نواجه نسخ مبدئية من تغول السلطة على حياة المواطنين واختياراتهم تحت دعوى عبارات فضفاضة مثل «حفظ السلم والأمن العام»، «تكدير الصفو العام»، «تقويض دعائم المجتمع»، حتى أننا لم نعد فقط ننشغل بقانون التظاهر والعقوبات المالية أو الجنائية القاسية على المتظاهرين، بل أصبحنا نرى نسخة مبدئية من حضور طاغٍ لممارسات «الدولة الدينية» وسط مباركات البعض وصمت البعض الآخر!
فبعد القبض على، ومحاكمة الروائى «أحمد ناجى» بدعوى «نشر الفجور» على بعض كلمات نشرت لإحدى رواياته فى إحدى الصحف المتخصصة، فإننا رأينا ومنذ أيام قليلة فيديو نشره الموقع الإلكترونى لجريدة «الوطن»، وقد قام فيه أحد المسئولين «نائب رئيس حى العجوزة»، بحملة أمنية على بعض المقاهى فى نطاق حيه، مخترقا «الفراشة» التى وضعت لتغطية مدخل القهوة، ليأمر المفطرين فى نهار رمضان بداخلها إلى مغادرة المقهى قبل غلقه، ليقف أمام الكاميرا واثقا مزهو بفعله! قبل هذا الفيديو المؤسف كانت الفتوى التى خرجت عن دار الإفتاء والتى كانت صياغتها تحريضية بشكل صارخ ضد المفطرين تسبب لغطا مجتمعيا آخر! يقال إن «نص الفتوى» تم حذفه من الموقع الإلكترونى لدار الإفتاء، ولم يتسنَ لى التأكد من هذه المعلومة، التى لو صحت ففى ذلك إيجابية لا يمكن أن ننكرها لا شك، لكن يبقى نص الفتوى مشابها لنصوص فتاوى كثيرة مماثلة تخرج عن بعض العلماء لتحرض ضد المفطر علنا فى نهار رمضان!
نحن هنا نشهد نسخة أولية من دولة «الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر»، وهى دولة لها ممارسات متنوعة فى المملكة العربية السعودية وإيران وأفغانستان وبعض مناطق باكستان، ولا حاجة لنا لشرح مغبة تلك الممارسات على المواطنين، حيث تحول الدين من علاقة بين العبد وربه إلى أداة للقمع والضبط والحشد والمكافأة والعقاب، بل أن المملكة السعودية قد أدخلت تعديلات مهمة على شرطة الأمر بالمعروف لديها وسحبت العديد من صلاحياتها أخيرا بعد تغول الأخيرة على حياة المواطنين. فلماذا نعيد نحن هذه السياسات العقيمة باسم الدين مرة أخرى؟
***
الصيام عبادة وفرض على من آمن بالرسالة واقتنع بالدين الإسلامى وفروضه، من يصوم يعلم أن الصيام فلسفة كاملة تقوم على التحكم فى الشهوات وقدرة النفس على ضبط الجسم واحتياجاته! إذن فالصيام فرض لمن اختار بإرادته الحرة وليس مدعاة للمفاخرة أو المغالبة أو فرض أسلوب حياة على الآخرين! الدين فى نظر المؤمن يجب أن يكون فلسفة للعبادة والتقرب من الله، سردية تجيب عن الأسئلة الصعبة المتعلقة بما وراء الطبيعة، أما أنه يتحول لأداة للبلطجة والسيطرة والإخضاع، فإننا بذلك نكون خرجنا من دائرة الإيمان الشخصى الفردى الحر الاختيارى، إلى دائرة الكهنوت التى تحول الدين إلى نظام اجتماعى وسياسى للسيطرة وإخضاع الآخرين مفاخرة بالأغلبية العددية وبالسطوة الروحية، ومغالبة للمخالفين وهو ما يخلق كره للدين ولتعاليمه ونفور مستتر لا يخرج عادة للسطح بسبب الخوف فينتشر النفاق والغش والخداع وهذا هو حال مجتمعنا اليوم فلماذا نزيد الطين بلة؟
من يفطر علنا فى رمضان إما أنه غير مسلم من الأساس وبالتالى فله مطلق الحرية أن يأكل أو يشرب فى الأماكن العامة كما شاء، أو أنه مسلم لديه أعذار وهى كثيرة لمن يفقه فى الدين منها المرض والسفر والدورة الشهرية، أو أنه ولد مسلما وترك الدين حتى ولو بشكل غير رسمى أو أنه فى مرحلة شك ويريد اختبار كل التعاليم التى كان يؤديها لسنوات حفظا ووراثة لا فهما وإيمانا، وبالتالى من حقه أن يخوض فترة الاختبار كاملة بحرية تامة وتمرد تام علنا وجهرا ويجب أن يكون آمنا فى كل مراحل اختباره، آمنا وهو يشك ويتمرد، وآمنا لو قرر ترك الدين، وآمنا لو قرر العودة إلى الدين، وإلا ما معنى أنه «لا إكراه فى الدين»؟
***
فتوى دار الإفتاء أخطأت فى الصياغة وكان يجب عليها أن توضح عدم جواز الإفطار عمدا فى نهار رمضان للمتدينين، تاركة العبارات التحريضية جانبا لأن الأخيرة ستؤدى حتما إلى مزيد من العنف والتطرف فى مجتمع هو بطبيعته مأزوم! كذلك فإن حملة حى العجوزة هى حملة غير قانونية وليس لها سند من الدستور، بل على العكس فهى أصلا مخالفة صريحة لباب الحقوق والحريات فى الدستور المصرى، فبأى وجه حق يكون لنائب رئيس الحى أو حتى المحافظ سلطة ضبط المفطرين أو طردهم من المقاهى أو إغلاق المقاهى والمحال؟ هذا تجاوز واضح من السلطة فى حق المجتمع وأفراده، تغول مستتر خلف شعارات أبوية أو أخلاقية فاسدة ومفسدة للمجتمع وللأفراد وللدين وللتدين! ثم ومع اعتراضى على المبدأ من الأساس، هل يتمكن حى التجمع الخامس أو حى الرحاب أو حتى نائب رئيس حى العجوزة هذا أن يقوم بحملة مماثلة على مطاعم وفنادق الخمس نجوم لضبط المفطرين هناك؟ قطعا لن يتجرأ لأن الموضوع لا علاقة له بالقانون أو الدستور أو الدين، ولكن له علاقة بتراتبية علاقات القوة فى المجتمع، وبالتالى تحول الدين إلى أداة لقمع الأقل قوة وحظا فى المجتمع لصالح الأكثر قوة وحظا وهذه الحقيقة وحدها كفيلة بخلق أجيال جديدة من الملحدين والمتمردين على تعاليم الدين ليس لأنهم أشرار ولكن لأنهم يواجهون سلطة تريد إخضاعهم بغير عدل ولا رحمة ولا حرية وكان هذا ولايزال الوضع فى مجتمعات الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر!
***
لقد تضاءلت أحلام الكثير منا ولم تعد قضايا مثل تدهور مستويات التمثيل الشعبى ولا نزاهة الانتخابات ولا قضايا الفصل بين السلطات ولا العلاقات المدنية الأمنية تشغلنا، فهذه أصبحت رفاهيات الآن ولكننا أصبحنا نخشى ونقلق على حياتنا الشخصية، على خيارتنا الحرة فى محيطنا الضيق، نرفض السلطة الدينية أو الأبوية أو الأخلاقية. وهنا المعضلة والدرس التاريخى حاضر، فمن برر القمع والانتهاكات وجادل فى أن الشعب المصرى غير جاهز للديمقراطية مهللا للسلطة المنفردة باعتبارها استثناءا تاريخيا لتحديث مصر وقيادتها لم يدرك أنه فى نفس الوقت كان يضحى بحريته الفردية، بخياراته الحرة فى الحياة، بمجاله الخاص، فعملية رهن (تفويض) المجال العام لصالح السلطة بداعى التحديث لم تكن تعنى فى الواقع سوى تفويض ورهن الحيوات الشخصية بالضرورة!
إن حقا أردنا حفظ «السلم والأمن العام»، عدم «تكدير الصفو العام»، دعم «دعائم المجتمع»، فيكون علينا أن نطلق الحريات الخاصة والعامة، أن ننحى سلطة الدين وكهنوته جانبا ليكون الأخير قرارا وفلسفة فردية حرة طوعية لبناء النفس وتطويعها سعيا لتعمير الأرض، أن نرفض بكل قوة أى وصاية أبوية أو أخلاقية للدولة على المجتمع، نحن مأزمون، ونتحايل على أزماتنا بمزيد من التورط فى الوحل، ابدأوا الآن، افرجوا عن أحمد ناجى وإسلام البحيرى وغيرهما ممن يقضون أيام شبابهم خلف الأسوار بدعوى التحريض على الفسوق والعصيان، قدموا ولو لمرة واحدة فرصة حقيقية تمكننا من التصالح مع ذواتنا قبل أن نتحدث عن المصالحة مع الآخرين!