يبقـى الدور التركى معلقــًا - جميل مطر - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 5:08 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

يبقـى الدور التركى معلقــًا

نشر فى : الخميس 12 يوليه 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 12 يوليه 2012 - 8:00 ص

أثارت تركيا بقيادة الطيب أردوغان ضجة عظيمة وصخبا هائلا عندما قررت أن تلعب دورا رئيسا فى إقامة نظام إقليمى جديد فى الشرق الأوسط. كانت على استعداد للاقتراب من حكومات دول عربية والمساهمة فى تسوية مشكلات عويصة تعبت فى محاولات حلها دول أحدث خبرة فى شئون العرب. حشدت طبقتها التجارية والصناعية والمالية لاختراق أسواق الدول العربية، وأقامت شراكات استثمارية واستعدت بالرأى العام وباستخدام فنون التليفزيون والاستعراض لتعرض على العرب نموذجها فى الحكم والاقتصاد فى صورة جذابة ومغرية.

 

كنت واحدا من الذين أشفقوا على  تركيا وأحلام حكومتها فى المنطقة العربية. أشفقت عليها من عواقب انبهارها بذاتها وبالإنجازات الصغيرة ولكن العديدة التى حققها أردوغان على الصعيد الداخلى وبالأفكار الضخمة التى طرحها بجاذبية ومهارة وزير خارجيته.. لم أخف إشفاقى بل نقلته بدون تشذيب إلى أصدقاء وأكاديميين أتراك. طلبت منهم وضع الترحيب الحماسى من جانب العرب بقدوم الأتراك ضمن إطار محدد وواضح. قلت وقتها إن الدعوات المتكررة من جانب جماعات وحكومات وأحزاب عربية لتركيا للتدخل فى شقاقات العرب ومشكلاتهم يجب أن يستقبلها الأتراك بكثير من الحذر، فالمنطقة العربية كانت تقف على فوهة بركان وحكامها كانوا يحلمون بدولة أجنبية تقودهم من بعيد يخيفون بها إيران وخصومهم من العرب الآخرين، ويطمئنون بها الولايات المتحدة التى كانت تدرس توقيتات الانسحاب من بعض المهام والمواقع الدولية.

 

●●●

 

كانت رغبة تركيا، إلى جانب رغبات أخرى، من رحلة العودة إلى الشرق العربى أن تستعيد مكانة فى المنطقة. أرادت أن تكون علاقتها بسوريا الأقوى، وكانت الأسباب مفهومة، وهذه رحبت بها سوريا ولكن فى إطار شك كبير. مهدت سوريا بتسليم عبدالله أوجلان إلى تركيا. ومن جانبهم رد الأتراك بنصائح للسوريين فور نشوب الثورة فى تونس ثم مصر وليبيا. يقول الزميل سركيس نعوم، الصحفى اللبنانى المرموق، إن الأتراك «سعوا إلى إقناع النظام السورى باستباق ما يمكن أن يحصل وقيادة عملية إصلاحية تنقذ سوريا من الدمار، لكنهم أخفقوا ثم كرروا المحاولة بعدما شمل الربيع سوريا مباشرة، فأخفقوا ثانية. وحاولوا مرة ثالثة وأعطوا ضمانات أنهم سينزلون إلى الشارع السورى لقيادة الحملة الانتخابية الرئاسية لبشار الأسد عام 2014 إذا نفذ إصلاحات معينة، لكنهم فشلوا أيضا».

 

●●●

 

لا يسعدنى كثيرا قراءة ما يثبت أننى كنت على حق عندما حذرت أصدقاء أتراكا من المبالغة بالانبهار بصدى عودتهم إلى المنطقة العربية وبالصعود المتتالى لسقف توقعاتهم،. لم يكن سعى الأتراك للتهدئة أو للتدخل الوقور الذى صادف ترحيبا شعبيا سوى البداية فى مسلسل خيبات الأمل. إذ إنه عندما فشل السعى للتهدئة بالتدخل الهادئ لجأت أنقرة إلى أسلوب أقل نعومة، وهو الأسلوب الذى جسد فى واقع الأمر نهاية حلم «الصفر مشاكل zero-problem» فى السياسة الخارجية لحكومة أردوغان. أقول حلما لأنه كان شعارا مثاليا لحالة خائلية لا علاقة لها بواقع العلاقات الدولية كما عرفناها ونعهدها. ظهرت خيبة الأمل واضحة فى المحاولة الثالثة للتدخل حين طرح أوغلو، وزير الخارجية، فى فبراير الماضى فكرة إقامة حلف الراغبين ليشترك فيه العرب لوقف عنف النظام السورى ضد الشعب ويهدف إلى إنشاء مناطق عازلة وشبكة من الممرات الآمنة لأغراض إنسانية، كما وعد بتنظيم حملة انشقاق ضباط وجنود الجيش وتشجيعهم.

 

استمر التصعيد فى الموقف التركى مع استمرار تحدى دمشق لمواقف الحكومة التركية واستمرار تدهور الأحوال فى سوريا حتى وصل الأمر بأردوغان إلى التهديد «بحشد قوتنا وإصدار الأوامر بإطلاق النار على كل شىء أو شخص سورى يقترب من حدود تركيا». هدد أيضا بأنه سوف يواصل دعم المعارضة بكل الوسائل المتاحة.

 

أكثرنا يعرف أن عددا من الدول العربية كتم أنفاسه ابتهاجا وتفاؤلا بما يمكن أن تحققه هذه التهديدات التركية عندما تتحول إلى أعمال حقيقية ضد النظام السورى، كان الأمل الكاسح فى بعض عواصم العرب هو أن «تركيا لن تتراجع قبل أن تسقط نظام الأسد سواء بالتدخل العسكرى المباشر أو بفتح حدودها أمام قوات دولية أو أطلسية». ولكننى أعرف عربا آخرين دقوا أجراسا عديدة للتحذير من مخاطر دفع أنقرة والإسلاميين الذين يتولون مقادير تركيا إلى عمل عسكرى ضد سوريا، هؤلاء يدركون أهمية سوريا الاستراتيجية وحساسية موقعها وتركيبتها السكانية وكفاءة استخدامها الأوراق القليلة التى تحتفظ أو تهدد بها.

 

●●●

 

كانت خيبة أمل القادة العرب الذين راهنوا على تدخل عسكرى وسياسى تركى فى سوريا لا يقل عن خيبة أمل الأتراك فى انكسار حلم العودة التاريخية السلسة إلى العالم العربى. هؤلاء القادة العرب لم يقدروا أن فى تركيا مؤسسات ومراكز أبحاث وتعددية فكرية نشأت وتعمقت فى ظل نظام سياسى منفتح على عوالم الديمقراطية، وهو الانفتاح الذى ضمن أن يأتى لأنقرة بحكومة إسلامية بدون المرور على ثورة ربيع أو خريف. توصل قطاع مهم فى المجتمع الأكاديمى والسياسى التركى إلى أن سوريا ليست حالة عادية من حالات الربيع العربى، حين اكتشف أن حال سوريا أقرب إلى حال البوسنة وقت الحرب الأهلية منها إلى تونس وليبيا ومصر. ففى سوريا، كما كان الحال فى البوسنة، توجد حكومة ضعيفة تقتل شعبا أعزل ولكنها فى الوقت نفسه قوية التأثير فيما حولها، وتستطيع دائما أن تحصل على دعم حلفاء خارجيين، وقادرة على زرع وتعميق الخلاف داخل التجمعات الدولية والفصائل المناهضة للنظام السورى.

 

●●●

 

يطرح محللون أتراك وغربيون أفكارا أخرى فى محاولات لتفسير تراجع إجراءات وتهديدات حكومة أردوغان عن التدخل فى سوريا، وتغيير لهجة الخطاب التركى المناهض لحكومة بشار الأسد. يعتقدون أن الموقف من إسقاط الطائرة التركية لم يتناسب إطلاقا ولهجة الخطاب الرسمى الذى كان يهدد قبلها بأقصى الإجراءات مثل الممرات الآمنة والحشود العسكرية على الحدود. التفسير الذى التقى عنده البعض من هؤلاء هو أن الجيش التركى، كمؤسسة ما زالت فاعلة فى النظام السياسى التركى، ضغط على الحكومة من أجل عدم تصعيد الخطاب الرسمى. توجد عناصر ترجح هذا التفسير منها على سبيل المثال أن الجيش خاب ظنه فى القدرة الدبلوماسية لحكومة أردوغان على تنفيذ وعودها وتهديداتها، ومنها أيضا أن الثقة الدولية والإقليمية وكذلك الداخلية فى حكمة وخبرة أردوغان ومستشاريه من قادة التيار الإسلامى ربما اهتزت بعد أن اتضح ميل أردوغان شخصيا إلى اتخاذ قرارات تحت ضغط الاندفاع أو الغضب أو الشعب.

 

من ناحية أخرى، يتردد أن جهات مسئولة ومتخصصين وخبراء فى الشئون الإقليمية حذروا من أن التورط التركى فى سوريا بدأ يضع العلاقات بين تركيا وإيران على درجة شديدة الحرج والحساسية. وإن كان المؤكد على كل حال هو أن الثورات العربية فى مجملها كانت، ومازالت، تمثل أحد مصادر التوتر فى العلاقات بين الدولتين الكبيرتين فى الإقليم. ويصعب تصور أن القادة العسكريين الأتراك يريدون أن تصل العلاقات بين الدولتين إلى حالة صدام أو توتر شديد فى الوقت الراهن بسبب تطورات فى سوريا أو العراق.

 

●●●

 

مازالت الثورة السورية وما يحيط بها من تفاعلات دولية وإقليمية تمثل حالة نموذجية للمدى الذى يمكن أن تذهب إليه دول عظمى ودول إقليمية لتتفادى مخاطر اصطدامات غير محسوبة النتائج. يبقى أمل النظام فى سوريا معقودا على تسويات  بين أطراف دولية لمشكلات أخرى تمهد لتسوية سورية. ويبقى أمل أطراف إقليمية، ومنها تركيا، معلقا بانتخابات الرئاسة الأمريكية فى نوفمبر القادم.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي