منذ انهيار اتفاق أوسلو عام 2002، وما تلاه من عنف مروع، كان بالإمكان ترديد قول واحد عن الضفة الغربية، وهو أن كل الأشياء قد تغيرت إلى الأسوأ. لكن ما كان مفاجئا بالنسبة لى أن الأمر الآن لم يعد كذلك.
وبالنسبة للفلسطينيين المحاصرين منذ وقت طويل بين المستوطنات الإسرائيلية المتنامية وجيش الاحتلال الإسرائيلى ويعانون من حالة الفوضى فى المدن وفراغ القيادة السياسية، كان واضحا أن الحياة بدأت تتحسن بدرجة ما بفضل الدائرة الحميدة. فقد أدى تطور الشرطة الفلسطينية إلى مزيد من الاستثمارات والتجارة، ما دفع بدوره الجيش الإسرائيلى إلى تفكيك المزيد من نقاط التفتيش فى الضفة الغربية، وهو ما أدى إلى نمو التجارة والسفر.
ونظرا لأن الضفة الغربية أصبحت اليوم خافية إلى حد كبير عن إسرائيل بسبب الجدار الفاصل، فقد بدأ الإسرائيليون يعرفون ماذا يحدث هناك عن طريق الصحافة. ولا شك أن العديد من الإسرائيليين قد فوجئوا فى 31 يوليو عندما قرأوا فى صحيفة معاريف الاقتباس التالى عن عمر هاشم، نائب رئيس الغرفة التجارية فى نابلس التى تمثل المركز التجارى الأهم فى الضفة الغربية: «يشعر التجار هنا بالرضا، والمبيعات تشهد تصاعدا، وهم يشعرون بأن الحياة تعود إلى طبيعتها. وهناك إحساس قوى بالتفاؤل».
ولا داعى لأن نقع فى الخطأ. فالفلسطينيون مازالوا يريدون أن ينتهى الاحتلال الإسرائيلى وأن تقام دولة خاصة بهم غدا. وبالرغم من أن ذلك لن يحدث، فإننا قد أصبحنا نشهد للمرة الأولى منذ أوسلو ظهور ديناميكية اقتصادية أمنية على الأرض فى الضفة الغربية، لديها إمكانية إعطاء فلسطين ما بعد ياسر عرفات فرصة أخرى لبناء نوع من سلطة الحكم الذاتى والجيش والاقتصاد، وهى كلها شروط لتأمين دولتهم المستقلة. ومن ثم، ربما يكون الشريك الفلسطينى لإسرائيل قد أصبح قيد التشكل مرة أخرى.
ويرجع السبب الرئيسى فى إحياء هذا الشريك إلى عملية تجنيد وتدريب وانتشار أربع كتائب من قوات الأمن الوطنى الفلسطينى، وهى الخطوة التى تزعمها الرئيس محمود عباس ورئيس الوزراء سلام فياض. وبعد أن تدربت ثلاث من هذه الكتائب فى الأردن، وفقا لبرنامج قامت بتمويله الولايات المتحدة، انتشرت منذ مايو 2008 محققة الأمن فى المدن الفلسطينية الرئيسية، وهى نابلس وأريحا والخليل ورام الله وجنين وبيت لحم.
وقد استقبل السكان بترحاب هذه القوات التى جاءت لتحل محل الجنود الإسرائيليين أو العصابات الفلسطينية. ومؤخرا، قامت قوات الأمن الوطنى الفلسطينى بالقضاء على خلية لحماس فى قلقيلية، وتكبدت خسائر جراء ذلك. ولم يهتم أحد بموت مقاتلى حماس، لكن آلاف الأشخاص ذهبوا إلى مراسم تأبين جنود قوات الأمن الوطنى الفلسطينى الذين قتلوا فى العملية. وسمعت لأول مرة كبار الضباط الإسرائيليين يقولون إن هذه القوات الفلسطينية الجديدة تتميز بالاحترافية.
وقد ساند رئيس الأركان فى الجيش الإسرائيلى الجنرال جابى أشكنازى هذه الخطوات، بتقليل نقاط التفتيش حول الضفة الغربية وعددها 41 بمقدار الثلثين تقريبا. وكانت إسرائيل قد أقامت هذه النقاط عام 2000 لتضييق الخناق على الفلسطينيين.
ونظرا لأن نقاط التفتيش هذه كانت تفرض على الفلسطينيين الانتظار لمدة ساعتين للمرور من مدينة إلى أخرى، وتمنعهم من التنقل بسياراتهم بين هذه المدن حيث كان عليهم الانتقال من سيارة إلى أخرى فقد أدت إلى خنق التجارة الفلسطينية. كما أن إسرائيل عاودت السماح لعرب إسرائيل بالذهاب بسياراتهم الخاصة إلى الضفة الغربية أيام السبت للتسوق.
وتقول ألفت حماد، المدير المساعد للمركز الفلسطينى للبحوث السياسية والمسيحية، وهى تقطن فى نابلس وتعمل فى رام الله «يمكنك أن تشعر بالحركة.. فلم يعد التحرك حول رام الله لإجراء اجتماعات العمل أو اللقاءات الاجتماعية عبئا». وفى نابلس، افتتحت أول «مدينة سينما» متعددة القاعات ومركز تجارى للأثاث، صمم كى يناسب ذوق الإسرائيليين. كما ارتفعت أسعار العقارات فى رام الله ارتفاعا شديدا.
ونقلت معاريف عن صاحب محل للأحذية فى نابلس قوله «تحققت زيادة فى المبيعات قدرها 70%. يأتى الناس من القرى المجاورة، ومن مدن الضفة الغربية الأخرى، وكذلك من إسرائيل».
لكن الرجال والنساء لا يحيون بمحال الأحذية وحدها. ذلك أن السلطة الفلسطينية التى تدير هذا المشهد لن تستطيع الاحتفاظ بشرعيتها إلا إذا أعطيت بالفعل سلطة سياسية فى الضفة الغربية تتجاوز الإشراف الأمنى أو على الأقل خريطة تشير إلى أنها فى الطريق إلى ذلك.
وقال لى رئيس الوزراء الفلسطينى سلام فياض إن «شعبنا يريد أن يرى أننا نحكم أنفسنا بأنفسنا، وأننا لسنا مجرد مقاولين من الباطن للأمن الإسرائيلى». ويقول خليل الشقاقى، أحد القياديين فى مجال تنظيم الاستفتاءات، إن عباس وفياض «يريدان أن يراهما الناس باعتبارهما يبنيان الدولة الفلسطينية لا باعتبارهما يبنيان قوات أمنية بدون دولة. ويجب أن يتحقق تقدم على الصعيد السياسى جنبا إلى جنب مع التطور على الصعيد الأمنى. وبدون ذلك، فهما يشعران بالكثير من الألم».
ويجب على أمريكا أن تغذى هذه الدائرة الحميدة. ويعنى ذلك المزيد من الأموال لتدريب قوات فلسطينية ذات مصداقية، والمزيد من تشجيع الإسرائيليين على المخاطرة بإزالة نقاط التفتيش، والمزيد من نمو الاقتصاد الفلسطينى، وتسارع المفاوضات حول حدود الدولة الفلسطينية فى الضفة الغربية. ويمكن أن تنضم حماس وغزة إلى ذلك لاحقا. لا تنتظروهما، فإذا قمنا ببناء الدولة، فسوف تأتيان.
نيويورك تايمز