تمر العلاقات بين الرياض وواشنطن بمنعطف تاريخى شديد الخطورة، يزيد من خطورته ثلاثة عوامل رئيسية سمحت بتسرب شكوك واسعة حول مستقبل علاقات الدولتين بناء على عدم اليقين فى مسار الأحداث الجارية.
وبداية فقد أخطأت الرياض خطأ كبيرا لترحيبها غير المفهوم بفوز دونالد ترامب بالرئاسة الأمريكية قبل عامين، إذ رأت فى فوز ترامب، وانتقال موازين القوة داخل البيت الأبيض ومجلسى الكونجرس إلى الجمهوريين فرصة لإعادة تقديم السعودية نفسها كحليف وضامن للمصالح الأمريكية فى الشرق الأوسط. واختارت الرياض أن تتجاهل تجاوزات ترامب المسيئة للسعودية أثناء الحملة الانتخابية. وشجع الرياض بصورة كبيرة خطاب ترامب المعادى للاتفاق النووى مع إيران وتعهده بانسحاب بلاده حال وصوله للبيت الأبيض، وهو ما فعله لاحقا. ولم تفهم الرياض أن قرار ترامب بخصوص إيران لم يكن تلبية لرغبة سعودية، بل هو بالأساس قرار داخلى يتسق مع الخط العام للتيار المتشدد داخل الحزب الجمهورى، والذى يدير بصورة كبيرة سياسة ترامب الخارجية. من ناحيتها سعت الرياض ممثلة فى ولى العهد محمد بن سلمان فى التأسيس لعلاقات تحالف مختلفة بين الدولتين، إلا أن شخصنة العلاقات لنحو غير مسبوق بين البيت الأبيض وبيت الحكم السعودى يهدد استراتيجية العلاقات فى مقتل، أضف إلى ذلك عدم إدراك ولى العهد بصورة كافية لطبيعة العملية السياسة فى واشنطن، واعتقاده أن وقوف ترامب بجانبه يعنى دعم المؤسسات الأمريكية له.
***
أول العوامل التى تعرض مستقبل العلاقات السعودية الأمريكية للخطر يتعلق بما أطلق عليه البعض «تحالف بن سلمان وجاريد كوشنر». ويعرض الكاتب الشهير بوب وودورد فى كتابه «الخوف: ترامب فى البيت الأبيض» كيف تم بناء علاقات خاصة بين كوشنر وبن سلمان، إذ خول لكوشنر التخطيط لزيارة ترامب الأولى الخارجية والتى أخذته إلى الرياض. اعتقد كوشنر، وفقا لوودورد، أن الزيارة تخدم هدف جمع السعودية وإسرائيل فى جبهة واحدة ضد إيران وهو ما يمهد الطريق لحوار مباشر بين الرياض وتل أبيب لاحقا. وتحدث كوشنر مباشرة لمحمد بن سلمان حول الزيارة، وحول المشتريات العسكرية وهو ما دفع لعقد صفقات تقدر بـ110 مليارات دولار، ثم دعا كوشنر بن سلمان أولا إلى البيت الأبيض فى منتصف مارس 2017.
ووصفت الرياض زيارة بن سلمان لواشنطن بأنها حدث تاريخى يضع أطر جديدة للعلاقات بين الرياض وواشنطن. وذكر أحد كبار مستشارى ولى العهد السعودى الأمير محمد بن سلمان فى لقاء مع رويترز أن اللقاء الذى تم بين الرئيس الأمريكى دونالد ترامب والأمير محمد كان ناجحا للغاية مؤكدا أنه يعتبر نقطة تحول تاريخية فى العلاقات بين البلدين التى مرت بفترة من تباعد وجهات النظر فى العديد من الملفات إلا أن اللقاء أعاد الأمور لمسارها الصحيح.
من ناحية أخرى، أثارت خطوة كوشنر قلقا فى أوساط الأجهزة الأمريكية، واشتكت وزارات أمريكية مثل الخارجية والدفاع وأجهزة الاستخبارات من أن أساليب كوشنر التى تعتمد على العلاقات الشخصية بدلا من القنوات الدبلوماسية والسياسية المتعارف عليها، لها مخاطر كبيرة خاصة مع عدم اطلاع مسئولى الإدارات المختصة عن فحوى ما يدار بينهما خلف الأبواب المغلقة.
***
العامل الثانى يرتبط بطبيعة الرئيس ترامب، فلم يتوقف الرئيس الأمريكى عن توجيه الإهانات للسعودية وحكامها إلا لفترة قصيرة. فخلال حملته الانتخابية وصف السعودية بأنها «بقرة حلوب تدر ذهبا ودولارات بحسب الطلب الأمريكى، ومتى جفت وتوقفت عن منحنا الدولارات والذهب عند ذلك نأمر بذبحها أو نطلب من غيرنا ذبحها». كذلك قال ترامب لمحطة فوكس الإخبارية إن تقرير لجنة تحقيق 11 سبتمبر يظهر أن السعودية لعبت دورا مهما فى الهجمات الإرهابية، إلا أننا هاجمنا العراق ونحن كنا نعلم أنهم ليسوا من أسقط مركز التجارة العالمى». ومن جديد عاد ترامب خلال الأيام الماضية للهجوم على السعودية وإذلال حكامها. وتحدث ترامب عن مكالمته الهاتفية الأخيرة مع ملك السعودية سلمان بن عبدالعزيز، وكشف أنه قال «إنه حذر الملك سلمان من أنه لن يبقى فى السلطة لأسبوعين دون دعم الجيش الأمريكى»، وقبل ذلك قال فى تجمع انتخابى آخر إنه تحدث للملك قائلا «الملك سلمان بن عبدالعزيز يمتلك تريليونات من الدولارات»، وأضاف أنه دون الولايات المتحدة الأمريكية «الله وحده يعلم ماذا سيحدث للمملكة». من ناحيته اكتفى الإعلام السعودى بالقول إن الملك سلمان تلقى اتصالا هاتفيا من الرئيس ترامب، وبحثا «العلاقات المتميزة» بين الجانبين. وضعت الرياض ثقلها والكثير من أوراقها فى سلة ترامب، وها هى تدفع ثمن حماسها الزائد لرئيس لا يعترف بقواعد العمل السياسى التقليدى.
***
ثم جاءت أزمة اختفاء الكاتب السعودى جمال خاشقجى لتلقى بظلالها على ما تبقى من أمل فى الحفاظ على علاقات خاصة بين الدولة الأهم فى عالم اليوم والدولة الأهم فى محيطها الإسلامى والعربى. وقبل أن تُعرف حقيقة ما حدث، أظهر الكونجرس موقفا متشدد للغاية تجاه الأنباء المتواترة عن احتمال تورط السعودية فى قتل جمال، وتعهد الكثير من أعضائه من الحزبين الجمهورى والديمقراطى بأن العلاقات لن تعود إلى ما كانت عليه حال التأكد من الاتهامات الموجهة للسعودية.
***
يبدو أن سيطرة محمد بن سلمان على كل مراكز القوة داخل منظومة الحكم السعودية المتشعبة تنهى ما عرف من وجود علاقات متشعبة أمريكية مع مراكز الدولة السعودية الأمنية والاقتصادية والعسكرية والسياسية. تجميع كل هذه الدوائر فى يد محمد بن سلمان، واستثماره فى إدارة ترامب وتهكمه على الديمقراطيين ينبئ بإعادة مراجعة العلاقات من جانب واشنطن حال انتهاء حكم ترامب بعد عامين أو ستة أعوام وربما قبل ذلك. سياسات ولى العهد سواء ما يتعلق باليمن أو لبنان أو قطر وأخيرا ما قد يتعلق بجمال خاشقجى قد يؤدى لنزع واشنطن عن دعمها للأمير والبحث عن بدائل أخرى.
كاتب صحفى يكتب من واشنطن
الاقتباس
سعت الرياض ممثلة فى ولى العهد محمد بن سلمان فى التأسيس لعلاقات تحالف مختلفة بين الدولتين، إلا أن شخصنة العلاقات لنحو غير مسبوق بين البيت الأبيض وبيت الحكم السعودى يهدد استراتيجية العلاقات فى مقتل