لم يتوقَّع أحدٌ غيابَ الدَّور العَربيِّ المُؤثِّر في صَالِح القضية الفلسطينية على هذه الصُّورة. الشَّجبُ والتَّنديد وتكرار العباراتِ المُترادِفة والإسهابُ فيها، والتأكيد على ضَرورة وَقفِ إطلاقِ النيران، وإبداءُ التعاطُف والتَرحُّم على مَن أودى بحيواتِهم القَّصف الوَحشي؛ لا يفي بالمَطلوب ولا يُلاقي أدنى قدرٍ من التآزر الوَاجب. تجسَّد الغيابُ بأفدحِ ما يكون مع حلول ذكرى السَّادس من أكتوبر التي انحفرَت في الأذهانِ كنصرٍ عظيمٍ، على عَدو لم يَزل بالأبواب.
* • •
الغائبُ في قواميس اللغة العربية اسمُ فاعل يُشير إلى غَير الموجود، هو مُشتقٌّ من الفعل اللازم "غاب" الذي لا يحتاج مفعولًا به كي يتحققَ، والمصدر غَيبَة وغيبًا، أما الغَيب هو ما لا يُدرِك الإنسانُ رغم تقدُّمه الهائل في شتّى الميادين. غيَّب بتشديد الياء وفتحها فعلٌّ مُتعَد؛ فاعله هو المُغيَّب بضمّ الميم وكسر وتشديد الياء، والمفعول به مُغيَّب بفتحها، والمَصدر تغييب.
* • •
النَّومُ غيابٌ مُؤقَّت عن الحياة يَجري في سِياقٍ طبيعيّ، أما الغيابُ عن الوَعي فحالٌ مُشابهة؛ لكنها غالبًا مَرَضِيَّة، والغيبوبةُ درجةٌ أعمَق وأشد. الأسبابُ كثيرةٌ مُتنوِّعة منها ما هو عُضويّ كاضطرابات القلب والكبد وغيرها، ومنها ما هو نفسيٌّ بَحت؛ يَهربُ المَرءُ عبره من صَدماتٍ كبرى تُزلزِل كيانه.
* • •
يُصابُ بعضُ الناس عند المَغيب بضِيقٍ في الصُّدور، ويزورهم خلال لحظاتِ تواري الشَّمس اكتئابٌ عابر. الغروبُ بالنسبة إليهم نهايةٌ وشيكةٌ لا رادَّ لها، على عَكس الشُّروق الذي يُبشّر بميلادٍ جديد. عن نفسي أحبُّ الغروبَ بكل تجلياته ولا أجد فيه ما يَقبضُ النَّفسَ أو يُوحي بالفناء، هو انتقال ناعمٌ إلى أجواءٍ أقلَّ صخبًا وأكثر سَلامًا ومَدعاة لتأمُّل هادئ طَويل.
* • •
إذا غابَ الواحدُ عن النَّظر فقد ابتعد بجَسدِه واختفى، وإذا سافرَ وطالَ به المَقام في مكانه؛ تساءلَ الأهلُ والأصحابُ عن سَبب الغَيبة الطَّويلة التي لم تقطعها زيارات، أما إن غيَّبه المَوت؛ فحقيقة لا يَعقبها لوْمٌ ولا تَصلُح معها هواتفٌ ولا طائرات.
* • •
في أزمنة وَلت وانقضت، لم تكُن العلاجات التي تُعيد العَقلَ إلى حاله الطبيعية قد اكتُشِفَت بعد. الحلُّ الذي ابتكره المُمَرضون للتعامُل مع حالات الهياجِ الشديدة عند مرضاهم؛ تلخَّص في الضَّغط على شريان رئيس يحملُ الدماءَ إلى المُّخ، ليصابَ المريضُ خلال ثواني بإغماءة تتلاشى معها ثورته. التَّغييبُ هو المُسمَّى الذي أُطلِقَ على هذه الطريقة المُخيفة، ولم يَعد بالطبع مُستخدَمًا مع تقدُّم العلم، خاصَّة وأن تبعاتِه قد تنتهي بالوفاة ما انقطع الأكسجين عن الخلايا لفترة قد تكون قصيرة.
* • •
غيابُ الأملِ مُرادفٌ لليأس ونتاجٌ لانسدادِ الأفق. يبذلُ المَرءُ الجَّهد فلا يتمكَّن مِن تغيير واقِعه ويَسعى فلا يجِد إلا أبوابًا مُغلقة وطرقًا مَقطوعة. بعض المرَّات يقترن غيابُ الأملِ بالقياس على ما سبق لا بالمُحاوَلة الفعلية. يستدعي الواحد ما مرَّ به سالفًا، ويرى أن القادمَ سيكون على غرارِه؛ رغم أن لكلِّ مقامٍ مَقال ولكلِّ مَوقِف ظروفه الخاصَّة التي يُمكن التغلُّبُ عليها وتذليلها.
* • •
في أيامِ الطفولةِ الغابرة؛ لم يكن أخذُ أسماءِ الطالباتِ في المَدرسة مع بدايةِ الحِصَّة الأولى؛ سوى مُقدِّمة لعقابٍ شديد ينالُ الغائباتِ مهمًا كانت الأعذار، وللحقِّ لم تتعلَّق الأسبابُ أبدًا بمراكز للدُّروس الخُصوصِيَّة؛ تقدِّم حِصَصَها في مواعيد الدارسَة العادية، ويتلهَّف التلامذة على الانضمام إليها ويتواطأ أهلوهم معهم.
* • •
يتطلَّبُ الغيابُ عن العَملِ حُجَّةً رَسمِيَّة مُعتمَدة؛ في مرَّات يتعذَّر الحصولُ عليها رغم أحقِّية صاحبِها، وفي مرَّات أخرى تأتي ببساطةٍ ودون استحقاق، أما عن الغياب الجماعي؛ فعادةً ما يكون مُدبَّرًا كأحد أساليبِ الاحتجاج؛ وفي الغالب يُقابله تكديرٌ من السُّلطة الآمرة التي تستنكفُ البحثَ عن حلولٍ لما تواجه من مُشكلات.
* • •
الغَايب حجته معاه؛ والقصد لفت النظر إلى ضرورة وجود تفسير. قد تكون الحجة التي يحملها الغائب مُقنِعة فتشفع له، ويصبح التسَرُّع في الحُكم عليه غير مُنصِف، وقد تكون تافهةً يتعذر قبولُها ويحقُّ الحسابُ على صاحبها، والقصد التريث والتأني قبل اتخاذ قرار وإفساح الصدر.
* • •
الحاضر جسدًا في مكان ما قد يكون غائبًا عنه روحًا وعقلًا، مُنصرِفًا عما يُفترَض أن ينتبه إليه، سارحًا في ما يشغل باله ومُفكرًا في أمر يُعضله، أو عازفًا عن المُشاركة بسبب انعدام الفائدة.
* • •
يُقال إن البعيدَ عن العَين بعيدٌ عن القلب، فالغياب الماديّ قد يترك أثره على المشاعر ويُجفِّف منابعها ويبليها، وفي هذا يقول شوقي من مَنفاه: اختلافُ النهارِ والليلِ يُنسي .. اذكرا لي الصِّبا وأيامَ أنسي؛ لكن الشاعر المُفوَّه لا يلبث أن يراجع نفسَه في القَّصيدة ذاتها: وسَلا مِصرَ هل سَلا القلبُ عنها .. أو أسا جُرحَه الزمانُ المُؤسّي؟ كلَّما مرَّت الليالي عليه رقَّ .. والعهدُ في الليالي تُقسِّي، والحقُّ أن الغيابَ قد يُزيد الشَّوق بمثلما قد يُغلظ القلبَ، والقولُ الفَصلُ هنا يَعتمد على طبيعة الارتباط وطبائع الشَّخص.
* • •
يستوي حضورُ بعض الناس وغِيابُهم؛ إذ لا يصنعون فارقًا يتأسَّى عليه أحدٌ، ولا يُشكِّلون في مُحيطِهم أهمِّية. آخرون غيابُهم أفضل من حضورِهم، ففي مَسالكِهم وأفعالهم ما يُؤذي البشرَ والحَجرَ ويَستثير الأزماتِ ويُعقِّد الأمور؛ حتى ليتمنى الآخرون لو اختفوا مِن على وَجه الأرض فتصير أقل بؤسًا..
* • •
على كلِّ حالٍ، لا تقفُ الحياةُ على شَخص ولا يتعطَّل دورانُ الأرض؛ إنما هي حلقاتٌ متتاليةٌ تُسلِّم كلٌّ منها للأخرى، وأكم من أشخاصٍ غابوا وتصوَّر الناسُ أن غيابَهم سيهدِم الكَّون؛ وإذا بالأمور تمضي على ما يُرام وإذا بالزَّمن يتجاوزهم دون تندُّم