أتحدث عن المشير، بوضوح. وليس عن المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ظنا منى أنه حل محل مبارك فى رئاسة الجيش ورئاسة الدولة، ولكن مع فارق أساسى هو أننى أقنع نفسى بأن المشير يريد بالفعل أن يسلم البلاد إلى رئيس مدنى منتخب. ولن أقول فى أقرب وقت، لأن كل ما يتخذه من قرارات يثبت أنه لا يختلف عن مبارك فى الاعتقاد بأن الوقت ليس دلالة محددة فى عملية صنع القرار، فالقرار الذى ينبغى أن يتخذ اليوم لا مانع من أن يتخذ بعد عدة شهور. المشير يضعنا فى مأزق.
كتبت فى 10 أبريل 2011 عمودا كان عنوانه «آخر عمود فى البيت»، وعبرت فيه بوضوح أن أى عاقل لا ينبغى أن يسمح بانقسام القوات المسلحة لا رأسيا (أى بانقلاب أحد القيادات على غيرها) ولا أفقيا (أى برفض الوحدات الأدنى لتنفيذ الأوامر الصادرة لها من القيادات الأعلى). انتقال أمراض النخب السياسية، وعلى رأسها الانقسام والتشظى، إلى القوات المسلحة مرفوض فى كل مجتمعات العالم. وأن تصل دولة ما إلى مرحلة الجيش «غير المسيس» مكسب وطنى وديمقراطى عظيم. وأزعم أن قيادات قواتنا المسلحة اختارت منذ عام 1967 أن تكون ملتزمة بما يلتزم به الرئيس الشرعى المستقر فى البلاد. عبد الناصر كان شعوبيا عروبيا اشتراكيا معاديا لإسرائيل متحالفا مع الاتحاد السوفييتى، وقبلت قيادات الجيش هذا التوجه حتى وإن تحفظت على بعضه. السادات كان نخبويا أقل اكتراثا بالعروبة انفتاحيا مسالما لإسرائيل متحالفا مع الولايات المتحدة، وقبلت قيادات الجيش هذا التوجه حتى وإن تحفظت على بعضه. مبارك جمع بين شىء من الخطين فى السياسة الداخلية والسياسة الخارجية، وقبلت قيادات الجيش هذا التوجه وحتى وإن تحفظت على بعضه.
<<<
إذن نحن أمام معطى مهم له جانبان:
أولا، القيادات العسكرية التزمت بالشرعية المستقرة حتى وإن اختلفت مع بعض سياساتها.
ثانيا، القيادات العسكرية الحالية قادرة، حتى الآن، على الإبقاء على تماسك المؤسسة العسكرية، ولكنها تستنزف رصيد شعبيتها عند الطبقة السياسية المصرية.
وكعادة قيادات القوات المسلحة فى آخر ثلاثة شهور تحديدا، فلهم قدرة استثنائية على الانحراف عن الهدف الأصلى، وهو ما يتجلى فى تأجيل الانتخابات وتأجيل تسليم السلطة واقتراح أن يكون لميزانيتها وضع خاص يليق بالمجتمعات التسلطية، وأنها تتوسع فى دوره كرقيب على إرادة الناخبين.
أتذكر أننى فى عمودى المشار إليه فى أبريل الماضى، قلت: «ليس من حق أى مجموعة من الشباب مهما كان نبل مقصدهم أن يضعوا البلد كله فى مواجهة مع القوات المسلحة». ولكننى قلت أيضا : «رسالتى إلى المجلس الأعلى، لو أسرع مبارك قبل 25 يناير، لِـما وصلنا إلى 12 فبراير».
وأقول بنفس الوضوح ليس من حق أى مجموعة من قيادات المجلس العسكرى مهما كان نبل مقصدهم أن يظنوا أنهم بعدم إطلاق الرصاص على المتظاهرين قد وضعوا دينا فى رقابنا يعطيهم حقا أن يكونوا أوصياء على الشعب، وإنما الصواب أنهم كانوا يردون الدين لهذا الشعب العظيم، وهو ما يقتضى منهم أن يحترموا إرادته كما عبروا عنها فى استفتاء مارس الماضى وكما سيكون فى الانتخابات القادمة. إذن وعلى نفس الوزن من عباراتى فى عمودى السابق أقول: «ليس من حق قيادات المجلس الأعلى للقوات المسلحة مهما كان نبل مقصدهم أن يجعلونا نختار بين احترامنا لقواتنا المسلحة غير المسيسة وبين رغبتنا فى دولة ديمقراطية حديثة».
<<<
أخشى بحق أن يكون السيد المشير قد فهم هذه الثورة على أنها فقط «انتفاضة شعبية مشروعة ضد التوريث والتزوير فقط». وهذا قطعا ليس بالقليل، ولكنه يقينا ليس كل ما كان يعنيه من أيد الثورة. والحقيقة أننى يغلب على ظنى أن هذا الموقف من قبل السيد المشير قد تطور. وظنى هذا مبنى فى جزء منه على معلومات وفى جزء منه على استنتاجات تقول إن المجلس كان شديد الحماس لانتقال السلطة فى أسرع وقت كى تتم عملية التحول الديمقراطى. ولو كان حدث هذا لما رأينا عورات الحكومة الحالية، ولما استفحلت المشكلة الاقتصادية، ولما دخلنا فى الجدل الذى نحن فيه حتى الآن بشأن «الدستور أولا» أو «الانتخابات أولا» والمبادىء الحاكمة الأساسية الاسترشادية. وكان هذا يتفق مع ما فى الرسالة رقم 28 من المجلس الأعلى للقوات المسلحة بتاريخ 27 مارس 2011 أى بعد أسبوع من إعلان نتيجة الاستفتاء وقبل ثلاثة أيام من إعلان البيان الدستورى والذى كان يقول: «يؤكد المجلس الأعلى للقوات المسلحة أنه لا صحة للأنباء التى تناقلتها وسائل الإعلام المختلفة عن تأجيل انتخابات الرئاسة لعام (2012)، كما يؤكد المجلس أن القوات المسلحة تسعى لإنهاء مهمتها فى أسرع وقت ممكن وتسليم الدولة إلى السلطة المدنية التى سيتم انتخابها بواسطة هذا الشعب العظيم. والله الموفق». ولكن حدث تراجع عن هذا الوعد فى نص المادة 60 من الإعلان الدستورى والذى «ضبط» وفقا لتعبير أحد قيادات المجلس العسكرى المادة 189 مكرر والتى كانت تنص على أن «يجتمع الأعضاء غير المعينين لأول مجلسى شعب و شورى تاليين لإعلان نتيجة الاستفتاء على تعديل الدستور لاختيار الجمعية التأسيسية المنوط بها إعداد مشروع الدستور الجديد خلال ستة اشهر من انتخابهم و ذلك كله وفقا لأحكام الفقرة الأخيرة من المادة 189». ولكن جاءت المادة 60 من الإعلان الدستورى مضافا إليها أن يكون هذا الاجتماع «بدعوة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة» وكأنه بهذا قرر أن يتخلى عن الإعلان 28 الصادر قبل الإعلان الدستورى بثلاثة أيام. وبهذا أجل المشير صراحة عملية تسليم السلطة من عام 2011 إلى عام 2012.
لقد كنت مقتنعا، ولم أزل، أن هناك فرقا جوهريا بين من يحكم البلاد لعشرات السنين ويريد «التزويث» أى التزوير من أجل التوريث، وبين من لا يريدهما ولا يسعى إليهما. ولكن فى بعض الأحيان تكون أفعال من أراد الباطل فإصابته قريبة جدا فى نتائجها ممن أراد الحق فأخطأه. هذا مع الافتراض الكامل لحسن النية.
إن هذا الكم من الأخطاء فى الإدارة والإشارة تجعلنى لا أتساءل عن النوايا والرؤية، وإنما أنا أتشكك فى الكفاءة والقدرة. ومن لا يستطيع، فهو غير مضطر لأن يستمر. لا نريد للجيش أن ينقسم لما فى ذلك من أخطار مهولة على الدولة والمجتمع. ولكن لا نقبل منه أن يضع نفسه فوق إرادة الأمة متمثلة فى استفتاء نزيه عبرت فيه عن إراداتها، وفى انتخابات قادمة يفترض أن تنقلنا إلى مصاف الدول الديمقراطية. وقد كتبت من قبل عن الشروط الثلاثة الواجب توافرها كى يكون الجيش حاكما للشرعية الدستورية من خلال أن يكون تدخله مشروطا بطلب من المحكمة الدستورية العليا بعد إصلاح طريقة اختيار أعضائها، مع الالتزام الواضح والصريح بوحدة الموازنة ومناقشة بنود الميزانية العسكرية فى لجنة خاصة من أعضاء البرلمان، كما هو معمول به فى دول العالم الحديثة.
<<<
جيشنا عظيم، هو منا ونحن منه، وهو ملك للشعب بنص الدستور السابق واللاحق، ويمارس الشعب سلطاته من خلال مؤسساته المنتخبة التى تراقب على كل المؤسسات الأخرى بما فيها الجيش، وإلا ستكون الثورة بحاجة لثورة جديدة حتى يفهم من يظنها انتفاضة أنها بالفعل ثورة.