عن محاكمة مبارك - نسرين بدوى - بوابة الشروق
الأربعاء 2 أبريل 2025 5:41 ص القاهرة

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

عن محاكمة مبارك

نشر فى : الخميس 11 ديسمبر 2014 - 8:20 ص | آخر تحديث : الخميس 11 ديسمبر 2014 - 8:20 ص

بعيدا عن التعقيدات القانونية والأسباب الإجرائية للحكم فى قضية قتل المتظاهرين، يحاول هذا المقال طرح وجهة نظر بديلة ألا وهى أن محاكمة مبارك، حتى بافتراض محاكمة عادلة توقع عليه عقوبة مستحقة، لم تكن الأنسب للتعامل مع عنف المؤسسة الأمنية. ووجهة النظر هذه لا تنطلق من منطلق التعاطف مع مبارك ولا من منطلق عفا الله عما سلف، بل هى تعبر عن وجهة نظر ترى نفسها منحازة للثورة بالأساس، ولكنها ترى قصورا فى قدرة القانون الجنائى على التعامل مع الجرائم المنهجية والمؤسساتية.

قصور القانون الجنائى

المشكلة فى مسار محاكمة مبارك ورجاله منذ البداية هى مشكلة تتعلق بفلسفة القانون الجنائى فى العالم كله، لكنها ظهرت فى مثالنا هذا واضحة جلية.

فعندما تقع أى جريمة يبحث القانون الجنائى عن الفرد – أو الأفراد – المسئول عن وقوعها ليعاقبه. والهدفان الرئيسيان للعقوبة – حسبما تدعى المجتمعات الحديثة – هما ردع المواطنين عن الاعتداء، وإصلاح المجرمين بهدف إعادة تأهيلهم داخل المجتمع.

لكن القانون الجنائى بهذا الشكل يعجز عن النظر إلى مسئولية المؤسسات لا الأفراد عن الجرائم، وهذا هو بالضبط وجه القصور فى محاكمة مبارك ورجاله.

فقد تم تحويل الأمر برمته إلى اتهامات لأشخاص (محمد حسنى السيد مبارك وحبيب ابراهيم حبيب العادلى... إلخ)، مع التغاضى عن دور المؤسسات التى يمثلونها (رئاسة الجمهورية ووزارة الداخلية... إلخ).

ورغم أنه لا يمكن فعليا إنكار الممارسات القمعية لجهاز الشرطة إبان حكم مبارك كما لا يمكن إنكار قتل المتظاهرين من قبل نظام مبارك (بغض النظر عن محاولات تزييف الوعى الجمعى)، إلا أنه تم اختزال هذه الجرائم فى أشخاص المتهمين، مما أدى إلى التعامى عن دور المؤسسة فى تشكيل أفعال أفرادها.

ففى كل مرة نطالب فيها بالقصاص من الضباط والمسئولين السياسيين، نتجاهل دور المؤسسة فى منهجية هذه التصرفات. فلإثبات الجريمة فى السياق الجنائى، يجرنا هذا النظام بقواعده وضوابطه الى الجدل حول مدى توافر القصد الجنائى وكفاية الأدلة والخلاف حول صدور قرار النيابة بألا وجه لنظر الدعوى من عدمه وما إلى ذلك من إجراءات موضوعة لتأكيد (أو نفى) مسئولية الفرد.

بل الأدهى هو أن القانون الجنائى بشكله التقليدى لا يتغاضى فقط عن دور المؤسسات، وإنما يعمل جاهدا على تبرئتها. فلإثبات مسئولية أحد الضباط عن القتل مثلا، يجب أن تحاول النيابة إثبات أن هذا الضابط لم يكن مكرها من قبل وزارة الداخلية على القيام بذلك، ولإثبات مسئولية أحد الضباط عن التعذيب، يجب إنكار فرض التعذيب على الضباط كأسلوب منهجى لجمع الأدلة.

وهذا هو ما حدث تماما على أرض الواقع، ليس فقط فى الدوائر القانونية، بل فى التعامل الشعبى مع هذه الجرائم منذ اللحظات الأولى للثورة. فطغت المطالبات بالقصاص على المطالبة بإعادة هيكلة مؤسسات الدولة وسادت الأصوات التى طالبت بتطهير جهاز الشرطة على الأصوات التى أرادت تغييرا أكثر هيكلية لمنظومة الأمن فى مصر.

وانتهزت مؤسسات الدولة هذه الفرصة، فهذه المؤسسات بغض النظر عن نزاهتها، لم ترد إضعاف نفسها. وكان من الطبيعى ان ترى تلك المؤسسات ان التخلى عن بعض أبنائها أقل هوانا من سقوطها وإعادة هيكلتها. وبالتدريج ونظرا لقصور الفكر الجنائى وعدم مواءمته للجرائم المنهجية التى ترتكب بصورة أكثر تعقيدا من تعريفه للجريمة، فشلت هذه المنظومة حتى فى إثبات المسئولية الفردية (وهو ما لا يمكن فصله عن الفشل فى إعادة هيكلة مؤسسات الدولة).

عودة الى أهداف القانون الجنائى وقضية قتل المتظاهرين

ولكن حتى فى حالة نجاح الطريق الجنائى لم يكن الوضع ليتغير بشكل جذرى (مع عدم انكار افتئات الحكم على شرعية الثورة)، وهو ما يعود بنا إلى أهداف النظام الجنائى وهى الردع وإعادة التأهيل. وفى هذه الحالة، يمكننا أن نجمع على أن هدف إعادة التأهيل منتفى فى حالة أشخاص مثل مبارك وحبيب العادلى وعليه يبقى هدف الردع. هل كان الحكم على أى منهما رادعا لمن خلفهما؟ هل كان ليمنع وقوع قتلى فى محمد محمود وماسبيرو والاتحادية ورابعة العدوية؟ إن الطبيعة المؤسساتية لهذه الجرائم تعنى أن انتقاء الأفراد وعدم المساس بالمؤسسات التى تهيئ الوضع لارتكاب مثل هذه الجرائم ما هو إلا تعزيز لقوة هذه المؤسسات. فتعتمد السلطة الجديدة على ثباتها سواء على أرضية شعبية أو أمنية أو كليهما وتقتنع بأن السبيل الأمثل لنجاحها هو الإبقاء على مثل هذه المؤسسات التى تسمح لها بترجيح موازين القوى لصالحها بغض النظر عن مدى قدرتها على تلبية الرغبات الشعبية. لذا، فإذا كانت هذه المحاكمة غير قادرة على الإصلاح أو الردع، فما هو الهدف منها؟ بانتفاء أهداف الردع والإصلاح، نجد انفسنا وجها لوجه أمام الهدف الحقيقى للعقوبة فى هذه الحالة وهو الهدف الذى ندعى كمجتمع حديث نفورنا منه، ألا وهو الانتقام. والانتقام شعور طبيعى، بل وانسانى فى هذه الحالة، بغض النظر عن مشروعيته. لكنه شعور محكوم بالنظرة للماضى لا للمستقبل. شعور محكوم بالشخصنة والتركيز على الأفراد بدلا من المؤسسات.

وما هو البديل؟

بصراحة، قد لا يكون هناك بديل عملى الآن، فموازين القوى اختلت بشدة وأصبح من غير المقبول مجرد الإشارة لإعادة هيكلة المؤسسات الأمنية فى الدولة، ولكن انعدام الفرصة فى الوقت الحالى لا يعنى أنها لم تكن سانحة فى أوائل شهور الثورة، فمحاكمة مبارك وقادة الداخلية لم تكن طوعية من مؤسسات الدولة ولكنها جاءت رضوخا من مؤسسات الدولة للمطالب الجماهيرية وضغط الملايين لمحاكمة مبارك، فى وقت كانت تلك المؤسسات تهاب رد الفعل الشعبى وتحاول احتواء حالات الغضب الجماهيرى. وربما لو كانت تلك الملايين تغاضت عن فكرة المسئولية الجنائية الفردية والرغبة فى الانتقام من مبارك وأفراد نظامه وضغطت لإعادة هيكلة مؤسسات الدولة مع وعود بعدم المساس بالأشخاص، لكان من المحتمل وليس المؤكد أن تأخذ الثورة مسارا آخر. ومن يدرى، ربما تتاح تلك الفرصة مرة أخرى.

نسرين بدوى مدرس قانون بقسم العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية
التعليقات