دخل عشرات الملايين إلى صالات السينما خلال أقل من شهر لمشاهدة فيلم «آفاتار» للمخرج الكندى جيمس كامرون. إنه حقا عمل فنى رائع يشكّل نقطة تحول فى تاريخ السينما. وكانت فكرة الفيلم قد نمت فى ذهن المخرج منذ خمسة عشر عاما، إلا أن الوسائل التقنية اللازمة لصنعه لم تكن متوافرة آنذاك. ولقد استغرق إنتاج الفيلم أربع سنوات من الجهد وأنجز كشريط ثلاثى الأبعاد، مشاهدته تحتاج إلى استخدام نظارات خاصة. وهو يأخذنا إلى عالم خرافى يتجاوز حدود الخيال. كوكبٌ أرضه خلاّبة مكونة من جبال معلقة وغابات مدهشة يسكنها شعب مسالم محاط بأصناف عديدة من الحيوانات الملونة غريبة الشكل. ومن سوء الحظ، تسكن هذه الكائنات فوق آبار من مادة معدنية نادرة تسعى الشركات الأمريكية الكبرى للسيطرة عليها، لأنها قد تحل أزمة الطاقة فى العالم. ولأن الهواء فى هذه الأرض البعيدة سام للإنسان، فلقد اخترع هؤلاء برنامج الآفاتار الذى يسمح لطيارين بشر أن يتقمصوا أجسادا بيولوجية يتحكمون بها عن بعد. ومن خلال هذه المغامرة الخيالية التى تجذب عقول عشرات وربما مئات الملايين من المشاهدين، يدخل كامرون فى مجموعة من التساؤلات المطروحة على الدولة العظمى الأكبر منذ أن أصبحت القطب الأوحد وبهذا القدر من القوة. فهو يظهر أمريكا كدولة مريضة بعظمتها وعاجزة عن فهم البلدان والمجتمعات والثقافات الأخرى، وقد تحولت إلى وحش فى طريقة ملاحقتها لمصالحها ومحاولتها السيطرة على الأدوات التى تؤمن لها هيمنتها الدائمة. هذه هى أمريكا العمياء التى طورت صناعة الموت، أى صناعتها العسكرية، إلى مستوى غير مسبوق والذى يغذّى بدوره شهيتها التى تنتهى إلى تدمير كل أشكال الحياة البشرية والروحية والحيوانية والنباتية.
وباختراع هذه الكائنات الغريبة، فقد تجنب المخرج أن يعطيهم أى طابع محدد قد يوحى بأنهم عرب أو آسيويون أو أفارقة. فلون بشرتهم أزرق وعيونهم خضراء ولهم ذيل أسود طويل. وهم رشيقو الحركة ويتنقلون بخفة فى عالمهم الخلاب حيث لا حيوان مهما كانت شراسته يعتدى على هذه الكائنات. وأهم خصوصياتهم هى حضارتهم الرقيقة وشديدة التعقيد فى الآن ذاته، فهم يعيشون فى عالم تتداخل فيه مكونات الطبيعة مع شبكة تشبه الشبكة الإلكترونية والتى تربط بين الكائنات الحية والأرواح والأشياء فى تناسق تام فيما بينها. هذه هى الحضارة التى تعتدى عليها أمريكا ولا تكف عن ممارسة غطرستها عليها حتى تنهزم هى ذاتها هزيمة كاملة.
بالطبع، وكما هو الحال دائما فى أى إنتاج سينمائى أمريكى، هناك مجموعة صغيرة من الأفراد العقلاء الذين يتنبهون إلى هذا الجنون ويطلقون عملية لتعطيل المخطط الجهنمى وإنقاذ هذه الحضارة الرقيقة وإنقاذ أمريكا من نفسها. فكما فى أى إنتاج شعبى، يلجأ المخرج إلى القيم البسيطة، مثل التمييز بين الصالحين والأشقياء، لكى يمرر من خلال ذلك رسائل مركبة تتعلق بالتحديات الأساسية التى تواجه الولايات المتحدة والغرب بأكمله منذ بداية القرن الجديد وبالتحديد منذ أن تم شنّ الحرب على أفغانستان وعلى العراق.
فى غرفة العمليات العلمية العسكرية التى تحضّر للحرب، نجد أعضاء سابقين فى المارينز إصاباتهم الجسدية والنفسية غير قابلة للشفاء، وقد فقدوا الأمل والقدرة للعودة إلى الحياة الطبيعية، لذلك فهم يبحثون عن مغامرات جديدة ولو كانت انتحارية. وبطل الفيلم، عضو سابق فى القوات البحرية مصاب بالشلل نتيجة لإصابته فى حرب سابقة، وهو يختلف مع رئيسه وينتهى به الأمر لمواجهته وقتله ليضع حدا لجنونه، ويظهر هنا وكأن المؤسسة بأكملها قد أصيبت بجنون جماعى، فى حين يحاول بعض العقلاء إنقاذها من خلال التمرد على أوامر رؤسائهم. نشاهد أيضا آلهة تدعى «أيوا» تحمى الشعب فى معركته ضد المعتدين وكأنها تضفى شرعية روحية على الجهاد المقدّس لهذا الشعب. وسرعان ما يتحول الأمريكى المعتدى، هو وعلمه وقوته، إلى الهمجى الذى لا يفقه شيئا مما يحيط به. وأمام عجزها عن السيطرة على هذا الكوكب بسبب مقاومة شعبه، تلجأ المؤسسة العسكرية إلى شيطنة الطرف المقابل ووصف المقاومين بالإرهابيين الذين يهددون الأمن العالمى. وهذه هى الكلمات السحرية التى تساعد كبير القادة العسكريين على تبرير الحرب أمام الجنود المجتمعين قبل إرسالهم إلى أرض المعركة.
من خلال رموز بدائية وحوار مبسّط، يطرح المخرج السؤال الجوهرى حول قدرة الغرب على إعادة بناء الدول وتنظيم المجتمعات من خلال التدخل العسكرى. التساؤل مزعج بالنسبة للغرب، لأنه، ومنذ نهاية الحرب الباردة، أخذ الحلف الأطلسى فى إعادة صياغة عقيدته وترتيب قواته وتجهيزها على أساس مبدأ التدخل فى بلدان أخرى عوضا عن الدفاع عن أراضى الدول الأعضاء. ومنذ ذلك الوقت، يتركز النقاش فى الغرب حول سبل ووسائل التدخل وإمكانية تحسين الأداء. ولكن قلّ من يجرؤ أحد من داخل المؤسسات العسكرية والسياسية فى أن يفتح النقاش حول مبدأ التدخل العسكرى نفسه كوسيلة لحل النزاعات.
يصادف عرض هذا الفيلم مع صدور أول مجلد من التاريخ العسكرى لحرب أفغانستان الذى أنجزه مؤرخون عسكريون رسميون يعملون فى الجيش الأمريكى، وهو يركّز على فشل المؤسسة العسكرية فى وضع أى تصور لعملية إعادة الاستقرار السياسى والاجتماعى والاقتصادى إلى البلاد بعد سقوط نظام الطالبان. بل والأهم من ذلك هو أن الوزارة كانت توصى جنرالات الجيش بأن يتجنبوا مثل هذا المجهود، وترد على أسئلتهم حول « بعد إسقاط النظام، ماذا بعد؟ «بالقول : «لا تفعلوا شيئا يوحى بأننا سنمكث هناك لمدة طويلة، فنحن دخلنا بسرعة وسنخرج بنفس السرعة».
وهكذا، وجدت الدول العظمى نفسها متورطة فى بلد لا تفهم تركيبته الاجتماعية ولا تاريخه السياسى، ولا علاقة سكانه بالدولة المركزية. وابتكرت الجيوش استراتيجيات لبناء نظام حكم ومؤسسات وتجريب وسائل مختلفة للسيطرة على الأمن وإطلاق مشاريع تنموية لكسب قلوب الشعب. لكن، قد لا يكون هناك سبيل لإصلاح الأخطاء الفادحة التى ارتكبت منذ اجتياح 2001. فإذا كانت القدرة على الفهم معدومة، والالتزام تجاه الشعوب والحرص على مستقبل بلدان ومناطق برمتها مفقودين، فلتكن هذه الأراضى مقبرة الإمبراطورية الأطلسية كما كانت بلاد باندورا فى فيلم آفاتار.