عن بدائل ومخاوف السندات الحكومية الدولية - عاصم أبو حطب - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 3:54 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن بدائل ومخاوف السندات الحكومية الدولية

نشر فى : الأحد 12 فبراير 2017 - 10:05 م | آخر تحديث : الأحد 12 فبراير 2017 - 10:05 م
منذ أيام قليلة، أعلنت وزارة المالية عن طرح سندات دولية بقيمة أربعة مليارات دولار أمريكى موزعة على ثلاثة آجال زمنية، تشمل 1.75 مليار دولار لمدة خمس سنوات وبفائدة 6.12%، ومليار دولار لمدة عشر سنوات بفائدة 7.62%، إلى جانب 1.25 مليار دولار لمدة ثلاثين سنة وبفائدة 8.42%. وقد أثار هذا الطرح حالة من القلق فى الأوساط الاقتصادية بشأن اتساع حجم الدين الخارجى المصرى، وتسارع خطى الحكومة نحو طرق أبواب الجهات التمويلية الدولية خلال العامين الماضيين.

وتقتضى الحيادية فى تناول الموضوع الإشارة إلى أن أغلب الآراء المعارضة لإصدار هذه السندات تفتقر بشكل عام إلى طرح بدائل عملية أخرى يمكن للحكومة التعويل عليها لتدبير تدفقات دولارية سريعة ومباشرة ــ كالتى ستوفرها السندات ــ فى ظل ضعف الإيرادات العامة والحاجة الملحة لتوفير موارد نقدية دولارية فى المدى القريب وتضاؤل فرص التمويل الأخرى.

وأمام هذا الوضع شديد التعقيد بين مخاطر التوسع فى الاقتراض الخارجى ومحدودية البدائل التمويلية المتاحة، لا بد من وضع الأمور فى نصابها والإشارة إلى أن السندات الدولية قد شكلت خلال العقود الأخيرة وسيلة استثمار مهمة على الصعيد الدولى، وأحد أدوات السياسة المالية للدول لتقليل العجز وسد الفجوات التمويلية. فبشكل عام، تلجأ الدول لعدة بدائل لتمويل عجز الموازنة، من بينها مثلا السحب من الفوائض والاحتياطات المالية، تخفيض النفقات والمصروفات، رفع الضرائب، أو إصدار سندات لتمويل العجز. وقد لجأت الحكومة لأغلب هذه الوسائل خلال السنوات الماضية تحت وطأة تراجع إيرادات القطاعات الاقتصادية الرئيسية المدرة للنقد الأجنبى كالسياحة وقناة السويس وتحويلات المصريين بالخارج والاستثمارات الأجنبية. وعلى الرغم من ذلك، فلايزال الاقتصاد المصرى يواجه تحديات بالغة على الصعيد السياسى والاجتماعى والأمنى أسفرت مجتمعة عن عجز تخطت قيمته 300 مليار جنيه، وديون بلغ حجمها ثلاثة تريليونات جنيه. ولسنا هنا بصدد تفنيد الأسباب التى أوصلتنا لهذا الوضع الاقتصادى الحرج، ولكن السؤال الأكثر إلحاحا يتعلق حاليا بآليات التعامل مع الوضع القائم أخذا فى الاعتبار عدم قدرة الاقتصاد فى المدى القصير على التعافى واستعادة مستويات نمو قطاعاته. وبعد الإجراءات التى اتخذتها الحكومة الأخيرة من تعويم للجنيه وتخفيض للدعم يصبح الاعتماد على أدوات تمويل تتضمن المزيد من الإجراءات التقشفية مسألة شديدة الحساسية قد تكون لها تكلفتها الباهظة على السلم الاجتماعى والاستقرار السياسى. ومن ثم، فلعل طرح الحكومة لهذه السندات يعد مسكنا مؤقتا ومصدرا سريعا لتوليد تدفقات نقدية مباشرة لتمويل العجز بدون الضغط المباشر على السوق المحلية. ولمزيد من الحيادية، تجدر الإشارة إلى أن مصر ليست الدولة الوحيدة فى المنطقة التى دفعتها الأزمات الاقتصادية للاقتراض الخارجى والسندات الدولية. فها هى السعودية ــ على سبيل المثال ــ والتى تعد إحدى أقوى اقتصادات المنطقة تواجه أزمة اقتصادية شرسة دفعت حكومتها فى البداية لاتخاذ سلسلة غير تقليدية من الإجراءات التقشفية، ثم لم تلبث تحت وطأة الأزمة أن لجأت إلى الاقتراض من البنوك الدولية فى خطوة غير معتادة. المقصود هنا أنه على الرغم من مشروعية المخاوف التى قد يثيرها الاقتراض الخارجى بأشكاله المختلفة، فلا ينبغى أن تدفعنا هذه المخاوف للتقليل من جدوى وفاعلية هذه الأداة ــ إذا أحسن إدارة متحصلاتها ــ فى أوقات المحن الاقتصادية.

***

وبمراجعة ما أعلنته الحكومة منذ العام الماضى حول خططها لتمويل العجز والتعامل مع أزمة النقد الأجنبى يتبين أن وزارة المالية قد تراجعت عدة مرات سابقا عن إصدار هذه السندات بسبب اضطرابات السوق وعدم ملاءمة الظروف الاقتصادية محليا ودوليا. وهذا وإن كان يعطى الانطباع بأن تحركات وزارة المالية تتم بناء على دراسة وتقييم للأوضاع، إلا أنه يطرح تساؤلا مهما حول مدى ملاءمة الظروف الحالية محليا ودوليا لاصدار هذه السندات والتى تزامنت مع وصول دونالد ترامب للبيت الأبيض والسياسات الاقتصادية التى يلوح بها كإعادة النظر فى عضوية الولايات المتحدة فى منظمة التجارة العالمية، والإجراءات الحمائية التى سيسعى من خلالها لإعادة بناء القطاع الصناعى الأمريكى، والتهديدات التى يوجهها للشركات الأجنبية ولدول وكيانات اقتصادية كالصين والاتحاد الأوروبى. وهذه السياسات قد تشعل حربا تجارية عالمية وقد يكون لها تأثيرات شديدة الخطورة على بنية النظام الاقتصادى العالمى بأكمله. وفى ظل هذه الأجواء التى تنذر بعدم الاستقرار وتزيد من معطيات المخاطرة واللا يقين بشكل مباشر أو غير مباشر على الاقتصاد المصرى، ينبغى أن تتحلى التحركات الاقتصادية الخارجية للحكومة بالتأنى الشديد وأن تتروى قبل طرق أبواب الخارج لسداد عجز الموازنة، لا سيما أن العائد على السندات التى نحن بصددها مرتفع نسبيا بالمقارنة بمتوسط عوائد السندات المشابهة لدول المنطقة.

وعلى الرغم من المأزق الحالى الذى لا تحسد عليه الحكومة، ما بين عجز شديد فى الموازنة يتطلب المزيد من الإجراءات التقشفية، أو اللجوء إلى الاقتراض، وهما خياران أحلاهما مر، إلا أن هناك مخاوف من أن تتوسع الحكومة فى الاقتراض الخارجى، لا سيما وقد بدت سياساتها المالية ــ فى بعض الأحيان ــ وكأنها تسير بمبدأ أهلا بالقروض طالما أن هناك مقرضين. ومما يدعو للمزيد من القلق هو الرسالة التى يتم تصديرها بكثافة للرأى العام ومفادها أن استعداد الجهات الدولية للإقراض يعد دليلا على الثقة فى أداء الاقتصاد المصرى. وللحقيقة، فإن هذا الزعم قد يكون صحيحا من الناحية النظرية ولكن تحت ظروف اقتصادية ومناخ استثمارى نحن أبعد ما نكون عنهما حاليا. فمن وجهة نظرى، لا يعدو القبول الكبير الذى تلقاه سندات الحكومة الدولية إلا أن يكون ببساطة شديدة مجرد استغلال فرص من قبل الجهات المقرضة للاستفادة من عوائد هذه السندات المرتفعة ومخاطرها المنخفضة بالنظر إلى حجم تغطيتها الكبير. وفى ضوء هذه المعطيات إلى جانب إجراءات الحكومة المتعلقة بتعويم العملة أخيرا، فسيكون لدى المستثمرين الأجانب الدوافع والحوافز للاستثمار فى أدوات الدين المصرية والتى ستكون أكثر جاذبية بعوائدها المرتفعة ــ بصرف النظر عن مسألة الأداء الاقتصادى للحكومة. وبالتالى فمن الضرورى أن يكون لدى الحكومة قدرة على ضبط النفس وعدم الانسياق أمام إغراءات التمويل السريع السهل من خلال السندات الدولية، لا سيما والعملة المحلية ليست فى أفضل حالاتها وسعر الفائدة الأمريكية مرشح للصعود وبذلك فأسعار الفائدة المرتفعة فى الأجل الطويل قد تدفع أسعار السندات للهبوط.

***

وفى سياق متصل، فإذا كان عزوف الحكومة فى الوقت الحالى عن مصادر التمويل المحلى له ما يبرره من ارتفاع تكلفته واحتمالات تأثيره سلبا على قيمة العملة المحلية؛ إلا أن الاقتراض من مؤسسات التمويل المحلية ينبغى أن يبقى دائما خيارا مطروحا أمام الحكومة لدوره فى نمو القطاع المصرفى ومساهمته فى التحكم فى معدل نمو التضخم المالى، ولأهميته فى تعزيز السيادة السياسية والاقتصادية الوطنية. فالدين العام المحلى يتم تسديده بالعملة المحلية، كما أنه يظل فى غالبيته ديونا للحكومة لصالح هيئات حكومية أخرى، وبالتالى يمكن استيعابه بصور شتى فى حال تأزم الأوضاع. أما حين يتعلق الأمر بالديون الخارجية، فإن عملية السداد تتم بالنقد الأجنبى فى الوقت الذى تعانى فيه البلاد من ضعف مستمر فى احتياطاتها لم تخفف حدته ــ حتى الآن ــ إجراءات التعويم. كذلك، فإن الفوائد المرتفعة لهذه السندات مقارنة بالمتوسط العام للسندات المناظرة لدول أخرى يمثل مصدر تهديد فى حال عجز الدولة عن سداد التزاماتها ــ رغم استبعاد هذا السيناريو. وما نحن من تجربة الأرجنتين مع السندات الدولية ببعيد، فقد طرحت فى مطلع العقد الماضى سندات دولية بحجم عشر مليارات دولار وبفوائد تخطت 10%، ثم لم تتمكن من سداد الفوائد بسبب تفاقم أزمتها الاقتصادية، لتدخل فى دوامة طويلة من مفاوضات إعادة الجدولة، وتجد نفسها تحت براثن مافيا شراء الديون المعدومة، وينتهى بها الأمر أمام المحاكم الدولية وحصول دائنيها على أحكام بإفلاسها، ثم تدخل قوى دولية لاستصدار قرار من الأمم المتحدة بمنع إصدار حكم من محكمة دولة بإفلاس دولة أخرى.

أخيرا، وحيث إن هذه السندات قد أضحت حقيقة، فالأهم الآن والأكثر جدوى هو الكيفية التى سيتم من خلالها الاستفادة بالتدفقات النقدية الناتجة عنها. فغياب خطة دقيقة للاستفادة من حصيلتها يطرح مخاوف بشأن تحول الاقتراض الخارجى عبر طرح السندات الدولية إلى وسيلة مغرية للتمويل الحكومى، على اعتبار أن قروض المنظمات الدولية ــ كالبنك الدولى ــ تتطلب وجود خطة متكاملة ومشروعات محددة الغرض لاستخدام القروض، بينما تظل عائدات طرح السندات متروكة لتصرف الحكومة بالشكل وللأغراض التى ترتئيها. ولذا، فإن كان الاقتراض الخارجى شر لابد منه، فينبغى أن يسبق إصدار مثل هذه السندات دراسة دقيقة لأوجه إنفاق التدفقات النقدية المترتبة عليها، فلا يقتصر الغرض منها على تمويل العجز وحده، وإنما ينبغى توجيه مواردها إلى المشروعات التنموية والاستثمارات ذوات العائد المرتفع لخلق مصادر للنقد الأجنبى للوفاء بالالتزامات المترتبة عليها من أقساط وفوائد. فالتوسع غير المدروس فى القروض الخارجية يمثل عبئا لا تتحمله الحكومة الحالية فقط وإنما تتحمله الأجيال القادمة.
عاصم أبو حطب أستاذ مساعد بقسم الاقتصاد بالجامعة السويدية للعلوم الزراعية
التعليقات