يبدو أن لعنة المادة 28 الشهيرة لم يصب رذاذها فقط الحياة السياسية فى المجتمع المصرى، بل فوجئنا أن الرذاذ قد انتقل إلى العملية التعليمية أيضا.
لم تقتصر المفارقة لمجرد التشابه بين رقمى المادة 28 فى الإعلان الدستورى والخاصة بتحصين لجنة الانتخابات الرئاسية وبين نفس الرقم 28 فى قانون التعليم والشهيرة أيضا بتحصين امتحانات الثانوية العامة. وإنما المفارقة امتدت للتشابه فى التعامل السياسى والقانونى من مختلف القوى السياسية الحاضرة فى الملعب السياسى الآن تجاه الموقف وكيفية التعامل مع المادة 28 فى كل من الإعلان الدستورى أو فى قانون الثانوية العامة.
وإذا كانت بعض القوى السياسية قد دغدغت مشاعر الجماهير وطالبتهم بالتصويت بنعم لصالح تمرير هذه المادة ضمن التعديلات الدستورية فى استفتاء 19 مارس، ورفضت هذه القوى بحسم واضح الاستماع إلى التحفظات الجدية من عواقب الموافقة السريعة بـ«نعم» على هذه التعديلات، مع ملاحظة أن نفس هذه القوى تثير الشكوك الآن حول تطبيق هذه المادة.
فإن نفس المشهد يتكرر مرة أخرى فى نفس المادة رقم 28 ولكن هذه المرة تحت اسم قانون التعليم، فتسارع هذه القوى السياسية ومن خلال أغلبيتها البرلمانية فى تمرير الموافقة «بنعم» لصالح أن يصبح امتحان الثانوية العامة على عام واحد بدلا من عامين، ولا تنسى أيضا فى سبيل ذلك أن تدغدغ مشاعر الجماهير تحت لافتة تقليل أعباء ومصروفات الدروس الخصوصية من على كاهل الأسرة المصرية.
بل تمتد المفارقة فى التشابه أيضا أنه بعد الموافقة المبدئية على تعديل القانون بدأت الآن الأصوات تتعالى من داخل البرلمان من المستقلين بل ومن نفس تيار الأغلبية لتطالب بإعادة النظر فى المشروع بحجة أنه لم يأخذ وقته فى الدراسة، لكن كما حدث مع المادة 28 فى الإعلان الدستورى لم يتغير الموقف منها تحت حجة أغلبية الاستفتاء الشعبى ونسير الأن تجاه الانتخابات الرئاسية فى وجودها. فها نحن بموافقة البرلمان النهائية على تعديل امتحان الثانوية العامة ليصبح على عام واحد بدلا من عامين نسير فى اتجاه التطبيق الفورى ــ بعد أيام قليلة ــ رغم الاعتراضات الجدية والتحفظات التى قيلت فى البرلمان تحت لافتة الأغلبية البرلمانية أيضا.
●●●
فالقضية فى التحفظ على المشروع الحالى ليست أن تصبح امتحانات الثانوية العامة عاما أو عامين، وإنما القضية متعلقة بالفلسفة من وراء التعديل المفاجئ والجزئى الذى حدث مؤخرا. فهذا المشروع الذى تمت الموافقة عليه كانت حكومة النظام السابق قد تقدمت به عام 2008 واستمر دراسته والجدل حوله أكثر من عامين حتى توقف المشروع نهائيا وقبل رحيل النظام السابق، والمثير للدهشة أن لجنة التعليم السابقة بمجلس الشعب قد رفضت المشروع السابق مع اقتراحها عودة نظام السنة الواحدة فى وجود التحسين وئظام الترم الدراسى للتخفيف عن كاهل الطلاب.
لكن الآن وفى البرلمان الجديد أخذت لجنة التعليم بشكل الفكرة دون المضمون، وهو عودتها لنظام العام الواحد، بل حتى لم تعرض فكرتها على أى من المتخصصين قبل تقديم مشروع القانون أو تستدعى أيا من الخبراء وأساتذة التربية إلى لجان استماع، وهو ما كشفته مناقشات البرلمان عند طلب إعادة المداولة واعترفت به اللجنة بالفعل، لكنها بررت ذلك بأنها عرضت المشروع على وزير التربية والتعليم الحالى الذى رحب بالفكرة ولكنه تحفظ على التطبيق لاحقا!
ومن هنا أصبحنا أمام تغيير فى قانون التعليم بدون رؤية واضحة وبدون أهداف أو منطق لجدوى التعديل، والأهم فى ذلك أن التعديل قد تم بدون مشاركة الشعب نفسه والمجتمع فى قضية تمس كل بيت مصرى. وهو ما أدى إلى حالة تذمر بين الطلاب وأولياء الأمور نتج عنها حالة تحفظ على التطبيق الفورى من اتحاد طلاب مصر.
ويضاعف من خطورة التعديل الجديد الجزء الثانى من تعديلات المادة 28 والتى أفرد لها مادة مستقلة برقم 29 وتتمثل فى تغيير مسمى الشهادة نفسها وإضافة كلمة منهية لها لتصبح «شهادة الدبلوم الثانوى العام». تغيير المسمى يعنى من ضمن المعانى الرئيسية له أنها أصبحت مؤهلة لسوق العمل مباشرة، وتعنى ضمنيا عدم التزام الحكومة القادمة ــ وهى فى الأغلب ستكون من أحزاب الأغلبية البرلمانية ــ بالتوسع فى تمويل العملية التعليمية وإنشاء المزيد من الجامعات الحكومية.
رغم أن الجميع يعلم أن حل أزمة ومعضلة الثانوية العامة لا يكون بجعلها عاما أو عامين أو حتى ثلاثة مثل كل الدول العربية الآن التى ألغت نظام العام الواحد والفرصة الوحيدة. وإنما يكون بزيادة موازنات التعليم وفتح المزيد من الجامعات لاستيعاب أعداد الطلاب المقيدين بالثانوى. لذلك فمن المتوقع أن يزيد التعديل الأخير من أزمة البطالة فى السوق المصرية، وهذا ما تؤيده الإحصائيات الأخيرة للجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء، حيث أوضح فى تقريره الأخير تزايد معدلات البطالة على مستوى الجمهورية بين حملة الشهادات المتوسطة «الدبلوم»، وبنسبة تصل إلى 80%، فى حين أنها تنخفض بين الحاصلين على الشهادات العليا إلى أقل من 25% فقط، مما يعنى أن خروج المزيد من حملة الثانوية العامة إلى سوق العمل سوف يؤدى للمزيد من البطالة.
مع الأخذ فى الاعتبار أن المشروع الجديد سوف يساهم أكثر فى تعميق الفجوة بين طموحات الطلاب وبين حلم مواصلة مشوار التعليم، لأن حقيقة الواقع التعليمى فى مصر تقول إن الأغنياء والطبقة المتوسطة أصبحت تهرب من الشهادة الوطنية «الثانوية العامة» لصالح الشهادات الأجنبية (العربية والدولية) التى تسمح بتعدد فرص الامتحان، ومن ثم إتاحة فرص أكثر لهم للالتحاق بجامعاتنا الحكومية المجانية!
●●●
وبالتالى فإن النظام الجديد حتى تحت يافطة «تقليل أعباء الدروس الخصوصية» لن يحقق الهدف منه، لأن القضاء على الدروس الخصوصية يتتطلب منظومة إصلاح كاملة على رأسها راتب عادل يوفى المعلم حقه، وأماكن لائقة بالمدارس للطلاب، ومناهج حديثة، وجامعات تستوعب الطلاب.
وفى ظل أزمة تمويل حاكمة فى موازنات التعليم، يصبح الحديث عن مجرد تخفيف أعباء الدروس الخصوصية حديثا مرسلا لا عائد من ورائه سوى مزيد من تدهور العملية التعليمية.
وكما زادت الشكوك والأزمات حول المادة «28» فإن تطبيق التعديل الأخير سوف يزيد من أزمات منظومة التعليم المأزومة من الأساس والعلاج يأتى من خلال التفكير بأساليب خارج الصندوق سواء كانت الحكومة من القوى المدنية أو تيارات الإسلام السياسى.