عواقب التصالح وطموحات المستقبل - وائل زكى - بوابة الشروق
الخميس 19 ديسمبر 2024 12:03 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عواقب التصالح وطموحات المستقبل

نشر فى : الثلاثاء 12 مايو 2020 - 9:05 م | آخر تحديث : الثلاثاء 12 مايو 2020 - 9:05 م

أورد القانون المصرى نصوصا نظمت الصلح وأخرى تنظم التصالح، وهو ما يعنى أن هناك فروقا بين الصلح والتصالح، فالصلح يقع بين أفراد أو بين أفراد وجهات ليس بينها من يمثل الدولة، أما إن كان أحد الأطراف جهة إدارية تتبع الدولة صار ذلك تصالحا. والصلح والتصالح يشتركان فى صفات ويختلفان فى أخرى، فكلاهما ينشأ الغرض منه لإنهاء خلاف أو نزاع أو خصومة، كما أن كلاهما اختيارى فالقانون يذكر «يجوز التصالح وتقنين الأوضاع فى...»، فإن أردت التصالح تقدمت بطلب لذلك، وإن لم ترد التصالح فلتتحمل تبعات ذلك، ويختلفان فى أن التصالح الذى تتيحه الدولة يتم بسداد مبلغ مقابل التصالح فى حين يتم الصلح بأشكال عديدة يرتضيها أطرافه، كما أن الصلح يتم حتى لو صدر حكم بات نهائى، أما التصالح فإنه لا يتم بعد صدور الحكم البات النهائى، وقد يقع الكثيرون فى الخلط بين الصلح والتصالح من الوجهة القانونية حتى فى بعض ما قرأت إعلاميا، حيث يتحدث عن جواز التصالح بعد صدور الأحكام الباتة النهائية فى حين يقصد الصلح.
ويفهم فى أمر التصالح أنه لا يمكن للمواطن طلب التصالح مع الدولة فى شىء لم تتح الدولة فرصة التصالح فيه، وهو حق للمواطن متى فتحت الدولة بابه ووضعت قواعده، على سبيل المثال إذا خالفت أحد قواعد المرور المتاح فيها التصالح يمكنك سداد فورى لما قيمته نصف الغرامة المالية، هذه المخالفات المرورية لا يترتب عليها أمر واقع ومستمر الأثر، هنا تتيح لك الدولة التصالح تسامحا من مبدأ عدم التعمد وعدم الإصرار على تكرار الواقعة التى لم يترتب عليها ضرر بالغير وتنجم عن اختراق قواعد تنظيمية فرضتها الدولة لسلامة النفس والغير وممتلكاته ولا ينشأ عنها تلفيات تضر بممتلكات الدولة والمال العام، هذا عكس التصالح فى مخالفات البناء التى ينشأ عن المخالفة فيها أمر واقع ومستمر الأثر، الأمر الواقع الذى فرضته مخالفة البناء يؤكد التعمد ومنها ما يلحق الضرر بالمال العام، فكيف ذلك ولماذا تتسامح الدولة فيه؟
***
من مخالفات البناء الأدوار المخالفة للارتفاع، فكيف تلحق الضرر بالمال العام؟ عند تخطيط المنطقة السكنية يقدر لها عدد السكان الذى يمكن أن يسكن تلك المنطقة وتقدير عدد وحداتها السكنية ومن ثم تقدير ارتفاعاتها، وعليه يتم تصميم شبكات المرافق المتناسبة مع هذا العدد من السكان والوحدات السكنية، ويوصى التخطيط العمرانى التفصيلى بارتفاعات المبانى فى هذه المنطقة ويتم اعتماده والعمل به فى وحدات التنظيم واستصدار تراخيص البناء، وتوضع مواسير المياه ومواسير الصرف الصحى بالأقطار المناسبة لكمية الضخ المتوقعة، وكذلك التيار الكهربائى وخطوط التليفون وغير ذلك من جميع المرافق، لنفترض الآن أن المبانى فى المنطقة خالفت وتجاوزت الارتفاع المسموح به وزاد عدد الوحدات وعدد السكان الفعلى بالمنطقة عن المقدر فى التخطيط، هذا يعنى عدم كفاية المياه التى تضخ لهم ويصعب وصولها للأدوار العليا المتجاوزة، كما يعنى عدم قدرة مواسير الصرف الصحى على تلقى تلك الكميات التى تضخ فيها من جميع الوحدات السكنية بالمنطقة، وإليك تبعات ذلك:
يبدأ السكان فى سلوك أشد ضررا بالشبكة عندما يقررون تركيب مواتير مياه، تخيل أننا جميعا نشرب من كأس واحدة وكل منا يمسك «مصاص» ويقوم بالشفط، ما يحدث هو نضوب المياه بالمواسير أو سحب جائر من المصدر قد يترتب عليه ــ منعا للشكاوى ــ تصرفٌ غير سليم باختصار أزمنة أو خطوات فلترة المياه وإلا قد يؤدى عدم وجود مياه بالمواسير مع استمرار السحب بقوة المواتير إلى كسرها وأحيانا تشرخ يحدث خلاله سحب للمياه الجوفية لداخل الماسورة مع مياه الشرب، وفى كل الأحوال يفقد الماء مواصفاته القياسية، أما بالنسبة للصرف الصحى فإن مصدره لدى المستخدمين وليس لدى المرفق، أى ليس هناك تحكم فى كميات الصرف التى تضخ فى المواسير ويؤدى ذلك حتما إلى كسرها أو شرخها أو طفح المياه من البالوعات، ناهيك عن استهلاك أكبر للتيار الكهربى والطلب على خطوط التليفون وسائر الخدمات المرفقية، فإذا كانت الدولة قد نفذت تلك الشبكات بميزانية محددة تشمل الصيانة طيلة عمرها الافتراضى بما لا يقل عن أربعين سنة، فإن المخالفات تهلك الشبكات بما يضطر الدولة معه للإصلاح والصيانة الكثيفة وربما الاستبدال والإحلال، إضافة إلى صيانة الطرق ونقص الخدمات العامة المقدمة لعدد مضاعف من سكان المنطقة، كتوفير الخدمات الإدارية والتجارية والصحية والتعليمية، وجميع تلك المرافق والخدمات المضافة يتم الصرف عليها من المال العام من بنود يعاد ترتيب أولوياتها تبعا لأحجام المشكلات وليس تبعا لخطط التطوير والرؤى المستقبلية.
***
إذا لماذا تضطر الحكومة للتصالح فى مخالفات البناء بينما تتحمل هدرا لا يستهان بقيمته المادية من المال العام، لماذا تتقبل الحكومة الوضع القائم وتعرض التصالح وتضع له مقابلا ماليا لمن يرغب فى التصالح، ومن لا يرغب عليه أن يواجه عقوبات مخالفاته، فى هذه الحالة يعقد المواطن معادلاته ويحسب حساباته بين المضى فى المخالفة وتبعاتها أو التقدم للتصالح ومكاسبه، وغالبا ما يتم من قبل المواطن ترجيح سياسة الوضع القائم والمضى فى المخالفة عن التقدم للتصالح مهما كانت مكاسبه، ففى عهد مضى كان موسم الاعتراف بالوضع القائم يتزامن مع موسم الانتخابات النيابية، والمواطن فطن ويعلم المدى الذى تصل إليه الحكومة فى مواجهة المناطق العشوائية وارتفاعات المبانى، واليوم تتوخى الحكومة السلام الاجتماعى وتقدر الظروف التى تدفع المواطن لسكنى الوحدات المخالفة، وكما هو المواطن فطن يعلم أن الحالة عامة، وأن الحكومة لن يسعها اتخاذ موقف حاد ضد ما يقرب من نصف وحدات السكن على مستوى الوطن.
وكما هو المواطن فطن فهو أيضا مغلوب على أمره، أين يسكن وليس أمامه سوى المخالف، أين يسكن وأمامه ما يقرب من خمسة ملايين وحدة سكنية خالية بالكامل ومحجوزة أى أنها ذهبت لغير المستفيد، وما يفوق الثلاثة ملايين وحدة سكنية خالية ومملوكة لذوى سكن آخر، أى ليس هناك ما يشجع ملاكها على استغلالها لصالح سكن المحتاجين، هنا نعود لدور الحكومات المتعاقبة بدءا بترك الأمور تستفحل بالمناطق العشوائية ثم بالمخالفات وتقديم علاجات وقتية أو محدودة جغرافيا، لن نتباكى على ما مضى بل نعمل لمستقبل أفضل، لذا ننبه أن نفس السياسة مازالت مستمرة، التصالح هو أحد تلك السياسات الوقتية للاعتراف بوضع قائم ناتج عن مرحلة من التخمة السكنية تقف أمام تبعاتها الحكومة عاجزة عن اتخاذ موقف تقديرا للظروف الاجتماعية والاقتصادية للمواطن، ومهما كان المقابل المالى للتصالح فلن تجدى النسبة المخصصة منه لتنفيذ الإسكان الاجتماعى وسد الطلب السنوى الفعلى الذى يصل لنحو نصف مليون وحدة سكنية تتناسب مع حجم تكون الأسر الجديدة سنويا، ولن تجدى النسبة المخصصة منه لتطوير شبكات البنية الأساسية والمرافق حتى مع إضافة نصيبها من الضريبة العقارية التى مازالت تستهدف تحقيق العائد المأمول.
لذلك نتوقع أن يكون التصالح خطوة فى طريق يمهد لحل معضلة الإسكان فى مصر حتى وإن كان طويل الأمد، حل يوائم طموحات المستقبل التى تحدها تلك المخالفات فى الامتداد والارتفاع، وتهددها علاقة مهترئة بين المالك والمستأجر فى عقارات قديمة أوشكت أعمارها الافتراضية على الانتهاء ومشكلتها فى الصيانة لن يحلها اتحاد شاغلين، ليس إجباريا، وأكثر من عشرة ملايين وحدة سكنية مغلقة لأسباب مختلفة، لا يطولها شباب يحتاج السكن، ربما يحتاجون من الدولة طرح وحدات للإيجار أو الإيجار الأعلى المنتهى بالتملك، أو ربما تضع الدولة محفزات أكثر تناسبا وواقعية لجذب المواطنين لسكنى المدن الجديدة، أو تطوير دور التعاونيات لتسهم بشكل أوسع فى إنشاء مدن وأحياء كاملة كما أسهمت بدور فاعل فى دول عدة أتاحت لها الفرصة، التصالح هو كما يقال عفا الله عما سلف، إذا وماذا فيما هو آت، نطمع فى رؤية مستقبلية تعبر عنها حزمة سياسات تتكامل لتفتح آفاقا واعدة بحلول شاملة.

وائل زكى استشاري التخطيط العمراني وعضو مقيم عقاري بلجان طعون الضرائب العقارية، ويعمل كأستاذ للتخطيط العمراني وتاريخ ونظريات تخطيط المدن ومدرب معتمد إدارة المشروعات
التعليقات