تحرش أم «غلاسة» - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 10:13 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تحرش أم «غلاسة»

نشر فى : الثلاثاء 12 يوليه 2016 - 9:20 م | آخر تحديث : الثلاثاء 12 يوليه 2016 - 9:20 م
الشاطئ يخلو إلا من عدد من العمال يفتحون الشماسى ويرتبون الكراسى وثلاثة أو أربعة غواصين لا يفعلون شيئا وشمس لا تزال رحيمة وامرأتين فى العشرينات تحت شمسية وشابين من نفس العمر يحومان حولهما ورجل تقدمت به السنون جالسا على مقعد فى مقهى لم يرفع شراعاته بعد. كنت أنا هذا المسن الساعى لهدوء شاطئ ونسيم بحر قبل أن يلوثهما زحام رواده وصخبهم.

تابعت من بعيد طواف الشابين بشمسية المرأتين. تصورت أن ما يحدث هناك لن يخرج عن كونه فى أحسن الأحوال محاولات للتعرف والتودد تنتهى بانضمام الشابين إلى شمسية المرأتين، وفى أسوأها عمليات تحرش تنتهى بزوبعة صياح وتشابك بالسباب. مرت دقائق والوضع هناك يحتمل التصورين. فجأة وقع التوقع الأسوأ.. وما هى إلا دقائق أخرى وكان المشهد قد انتقل إلى ساحة المقهى التى اخترت أن أجلس فى جانب منها.
* * *
فهمت من ثنايا الصياح أن الشاب الملتحى متهم بالتحرش بإحدى المرأتين. تولت الصراخ المرأة الأطول قامة وهى الأجمل والأكثر أناقة وجاذبية. كان واضحا أنها من نوع النساء اللائى لا يخرجن من منازلهن فى أى ساعة من ساعات النهار أو الليل إلا وهن واثقات من أن لا خصلة شعر فى غير مكانها ولا رمشة عين غير متأهبة أو متألقة. اختارت أن ترتدى أقل القليل فوق لباس البحر وراح ظنى إلى أن هذا القليل كان كافيا لتزويدها بطاقة هائلة للصياح وشجاعة فائقة تواجه بها تجمعا ذكوريا يشده صوت الاشتباك والانبهار بقوام الطرف المهاجم والبشرى بنهار يبدأ حافلا.
تأثر أحد العمال بصياح المرأة. رأيته يتحدث عبر الهاتف ثم يطمئنها أن مسئول الأمن قادم بنفسه. وصل المسئول وفى يده هاتف أكبر حجما من كل الهواتف التى يحملها عمال الشاطئ والغواصون. شعرت فور وصوله بتغير جوهرى فى أسلوب الاشتباك ونبرة الصراخ. من حسن حظى، كمشاهد، أن خبير الأمن استطاع أن يبعد عمال الشاطئ ويدعو المشتبكين للاقتراب ناحيتى. كانت فرصة لاكتشاف كم أن التفاصيل صارخة وأن المقارنة بين الامرأتين تظلم بشدة واحدة منهما، فهى أقل حجما وجمالا، فوضوية الشعر والزينة. ترتدى من الثياب الكثير مما يمكن أو يجب الاستغناء عنه. هى لا تنطق. لم أسمع لها صوتا على امتداد الاشتباك رغم أنها ضحية التحرش حسب زعم رفيقتها. كانت هى، وليست صديقتها، هدف الشاب الملتحى الذى راح يطوف ويطوف حول شمسيتهما.
* * *
فض الاشتباك وانضم إلى مائدتى خبير الأمن مرحبا بدعوة وجهتها إليه لشرب كوب من الشاى بالحليب. عرفت، قبل أن يتكلم، السبب الذى جعل المرأة الصارخة تهدئ من صراخها وتبدى استعدادها لتناقش معه المشكلة بهدوء. كان رجل الأمن وسيما إلى حد كافٍ للجم الصراخ وترطيب المزاج وقد رأيت تأثير وسامته على قسمات وجهها ولمعان عينيها ومخارج الألفاظ على شفتيها، رأيته مباشرا وفاعلا. أثنيت على كفاءته والسرعة التى أنهى بها الاشتباك دون أن ألمح إلى سطوة ونفاذية عينيه الخضراوين فى وجه لفحته شمس الشاطئ بسمرة محببة. رد بأنه لا يستحق ثناء فقد «تعودنا على هذه الأمور»، مضيفا «ولكنى لا أخفيك أننى تأثرت بخفة ظل الشابين، وبخاصة الشاب الذى تولى مهمة الدفاع عن زميله المتهم بالتحرش». ففى خضم الاشتباك استطاع أن يتسلل من خلال الصياح بكلمات قليلة وجهها نحو المرأة الصارخة معترفا فيها بأنهما ارتكبا خطأ جسيما ويستحقان العقاب». راح الشاب يطلب منها أن تصدق أنهما استيقظا هذا الصباح «لنجد أنفسنا فى مزاج «غلاسة» فقررنا أن نقضى اليوم بطوله «نغلس» على «خلق الله». وقد ساقكما الحظ لتكونا أول ضحايا هذا المزاج. عاقبونا على الغلاسة ولا تعاقبونا على التحرش. سيدتى.. كنا «بنغلس» ولم نكن نتحرش، بدليل أن زميلى لم ينطق بكلمة واحدة خارجة أو غير لائقة، أردناها «غلاسة» بريئة ونظيفة». اقتنعت المرأتان وبخاصة بعد أن وضحت لهما حقيقة أن إجراءات قضايا التحرش طويلة ومعقدة، وأن لا قانون يعاقب الناس على «الغلاسة»، وأن الأفضل للجميع أن يعودوا إلى مزاج الاستمتاع بالمصيف.
* * *
عاد رجل الأمن إلى كوب الشاى وعيناه تفحصانى مستفسرتين. طمأنته، فاستطرد «حضرتك لو تعرف الظروف التى نعمل فيها لوجدت لنا ألف عذر وعذر لما قد يبدو تقصيرا من جانبنا». أولا، لا صيف بدون تحرش. صدقنى حضرتك، الصيف يمكن أن يكون ثقيل الظل وعظيم الملل وشديد السخف لو لم نسمح بأن تتخلله أعمال غزل عفيف. أقسم لحضرتك أن كل الناس، فى واقع خبرتى، تتحرش وليس بالضرورة جنسيا. أنا نفسى أتعرض طول الوقت للتحرش من جانب نساء. لا تنس، يا أستاذ، إن كل هؤلاء كبارا وصغارا حضروا دورة تحرش مكثف ومتنوع على مدى ثلاثين ليلة فى رمضان، وسوف نرى تطبيقات لهذه الدورة هنا وهناك، والصيف بيننا شاهد».
سكت ليرشف رشفة أخرى من الشاى، ويستأنف، «حضرتك لازم تعرف إن إحنا كضباط أمن وسيارات أمن وهواتف آخر طراز، مجرد صورة. نحن لا نملك سلطة التحقيق أو الاعتقال أو الحجز أو أى سلطة أخرى. رأيتنى أمامك وأنا أحاول إنهاء الاشتباك بوسائل بدائية وأساليب علاقات عامة لأننى فى حقيقة الأمر لا أملك حق اتخاذ أى خطوة قانونية لو أن المرأة اختارت التمسك بحقوقها».
***
«الأمن يا سيدى فى أيدى البدو، إنه شرط تعاقدى. سلطة الدولة تقف عند الحدود الخارجية للقرية، وربما وقفت عند حدود النطرون. الأمن هنا وعلى طول الساحل تتولاه القبائل كما تتولى خدمات أخرى. وظيفتنا أن نمثل دور الأمن ولكن لا نمارسه. هل يمكن لحضرتك أن تتخيل ماذا يمكن أن يحدث لو وقعت هاتان المرأتان ضحايا التحرش والشابان المتهمان به فى أيدى قوى الأمن الحقيقية، أى فى أيدى البدو وخضعوا الأربعة لحكم الأعراف غير المكتوبة».
***
ذهب مسئول الأمن إلى حال سبيله ولم أذهب إلى حال سبيلى. قررت أن أمد إقامتى فى القرية يومين إضافيين لمزيد من البحث عن «الدولة». لم أجد دليلا يؤكد وجودها. رحت أسأل فى القرى المجاورة فلم أجد أحدا وقعت عينه عليها، سألت الأصدقاء فى القرى البعيدة جدا المنتشرة لمسافة مئات الكيلومترات.. تلقيت الإجابة ذاتها، شىء من الدولة موجود بالطلب أو بالصدفة على الطرق الرئيسية. أخيرا صدقت الذى قال إنها فى بعض المواقع والخدمات ليست أكثر من شبه دولة.
جميل مطر كاتب ومحلل سياسي