المرض الفنزويلى! - محمد يوسف - بوابة الشروق
الأحد 22 ديسمبر 2024 4:03 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المرض الفنزويلى!

نشر فى : الأحد 12 أغسطس 2018 - 10:05 م | آخر تحديث : الأحد 12 أغسطس 2018 - 10:05 م

أثناء متابعتى لتفاصيل الأزمة الاقتصادية التى تهز أركان الاقتصاد الفنزويلى هذه الأيام، تلك الأزمة التى عبرت عن نفسها فى الوصول لاقتصاد «التضخم الجامح» Hyper Inflation؛ تذكرت أنه منذ نيف وتسعين عاما، وتحديدا فى مطلع عشرينيات القرن الماضى، مرّ الاقتصاد الألمانى بظاهرة نقدية لم يشهد لها التاريخ النقدى مثيل. فعلى إثر أزمة «التعويضات الألمانية» الشهيرة فى أعقاب الحرب العالمية الأولى، وبسبب الإفراط الكبير فى طباعة النقود، تعرض السوق الألمانية لهزة نقدية عنيفة، وجمح التضخم فيه جموحا أفقد المارك الألمانى (العملة الألمانية آنذاك) كل وظائف النقود، وعادت ألمانيا مرة أخرى إلى نظام المقايضة البالى!
ورغم اختلاف السياق التاريخى للأزمتين الألمانية والفنزويلية، ورغم البون الشاسع بين مستوى التقدم فى كل منهما، فأننى أثناء تحليلى للأزمة الفنزويلية الراهنة، سأحاول استخلاص أهم العبرات التنموية من التشابه بين هاتين الأزمتين، لأقدمها لصنّاع القرار الاقتصادى فى بلادنا، علها تساعدهم فى رؤية الطريق الذى أدعوهم إليه باستمرار.
****
من عجائب عالمنا المعاصر أن يسقط اقتصاد دولة تعد من كبريات الدول المنتجة والمصدرة للنفط فى هاوية التضخم الجامح. فأكثر الاقتصاديين تشاؤما لم يدُر فى خلده أن يأتى اليوم الذى يرى فيه واحدا من أبرز أعضاء «أوبك» وهو يصارع مشكلات اقتصادية من قبيل العجز عن تدبير العملات الأجنبية، والفجوة المتسعة فى الميزان التجارى، والتراجع الصارخ فى رصيد الاحتياطات الدولية. ولكن، ويا للعجب، هذا هو حال اقتصاد فنزويلا أثناء كتابة هذه السطور.
فتربع الاقتصاد الفنزويلى على عرش العالم، كصاحبة أضخم احتياطات نفطية مؤكدة (303 مليار برميل فى العام 2017 وفق إحصاءات منظمة «أوبك«)، وتملّكه لربع احتياطيات مجموعة «أوبك» من الزيت الخام، لم يكن شفيعا له عندما أمسكت الأزمة بخناقهِ. وكأننا أمام اقتصاد إحدى الدول الإفريقية الفقيرة، والعارية من الموارد الطبيعية. وأيا كان الأمر، ففى الفقرات التالية أجتهد فى الإجابة على عدد من التساؤلات الملحة التى وثبت لذهن القارئ الآن حول أزمة الاقتصاد الفنزويلى، أو ما أنعته هنا بـ«المرض الفنزويلى».
إن أول التساؤلات اللصيقة بالأزمة الفنزويلية تدور حول ماهية الأسباب الحقيقية التى أوصلت هذا الاقتصاد اللاتينى لهذا الوضع الكارثى، ومدى مسئولية الأوضاع السياسية الملتهبة هناك عن إحداث هذا المرض. وبدون التهوين من البعد السياسى (الداخلى والخارجي) الذى يلح عليه البعض، أعتقد أن التفسير الاقتصادى هو الأكثر حجية، وهو الأقرب لواقع هذه الأزمة. فمهما بلغت حدة القلاقل السياسية الداخلية، ومهما اشتدت وطأة الضغوط السياسية الخارجية، فإنها لا يمكن أن تؤتى أُكلها فى تشويه البُنى الاقتصادية، وفى إشعال نيران الأزمات، إلا إذا كان المُناخ الاقتصادى الإجمالى قابلا للاشتعال ابتداءً. والتاريخ الحديث يعج بالأمثلة التى تؤكد أن نقاط الضعف الاقتصادى تبدأ من الداخل، ثم سرعان ما يُحسن الخارج استغلالها لتحقيق مآربه.
ولئن كنت أُرجح التفسير الاقتصادى للأزمة الفنزويلية، فإننى أنبه القارئ لوجود أسباب اقتصادية ظاهرية خادعة؛ فى مقابل وجود أسباب جوهرية، أراها المتهم الرئيسى فى هذه الأزمة. فعندما يُشاع أن تراجع أسعار النفط هو المسئول الأول عن العجز فى الميزان التجارى، وأن العقبات الموضوعة أمام صادرات النفط الفنزويلية هى المسئول الثانى عن هذا العجز، وأن الإدارة الاشتراكية للأنشطة الإنتاجية هى المتسببة فى انخفاض الإنتاجية الكلية لعناصر الإنتاج الفنزويلية، فإن ذلك يُعمى الأبصار عن رؤية الحقيقة. فلا النفط الرخيص، ولا التراخى فى حجم الصادرات النفطية، ولا الإدارة الاشتراكية، تمثل الأسباب الحقيقية للمرض الفنزويلي؛ ولكنها، بالكاد، مجرد أعراض لمرض آخر، ألا وهو اختيار طريق تنموى خاطئ ومضلل. وينقلنا ذلك لطرح التساؤل الثانى.
يمكننا الآن أن نتساءل: هل الطريق التنموى الذى سلكته فنزويلا هو المسئول عن الأزمة؟
إن الإفراط الفنزويلى فى الاعتماد على قطاع النفط فى الاستثمار والتشغيل والإنتاج والتصدير، يذكرنا بعسكرة الاقتصاد الألمانى إبان الحرب العالمية الأولى. فالنتيجة التى ترتبت عليهما واحدة، وهى التوسع الكبير فى طباعة النقود الورقية من جانب السلطات النقدية. غير أن هناك خلافا وحيدا بينهما، ولكنه اختلاف جوهرى. فالنظام الألمانى عندما اتجه للعسكرة آنذاك، كانت لديه قاعدة وطنية من التكنولوجيا الصناعية، تمكنه من الإنتاج بالاعتماد على ذاته، سواء كان إنتاجا مدنيا أو عسكريا. أما النظام الفنزويلى، وهو «يُنَفّطْ» الاقتصاد (إذا جاز لنا استخدام هذا التعبير)، لم تكن لديه تكنولوجيا إنتاج وطنية، وظل يعتمد على استيراد ما تيسر له من التكنولوجيا المتاحة فى الأسواق الدولية، وظل يمنح «حوافز رديئة سخية» لشركات استخراج النفط، واستمر فى تصدير هذا النفط كمادة خام غير مُصنعة، وترك هيكل صادراته النفطية يتركز فى عدد قليل من الأسواق الدولية، ولم يحسن استغلال ما تكون لديه من فوائض نفطية. ولما كان نصيب التكنولوجيا المستوردة فى إنتاج النفط يتفوق على نصيب الأجور والريوع الوطنية، وبما أن تصدير النفط فى شكله الخام يقلل من القيمة المضافة الوطنية لقطاع النفط، وبينما يزيد التركز الجغرافى فى أسواق التصدير من مخاطر صدمات التجارة الخارجية، وطالما أن الفوائض النفطية تُكوّن من مصدر ناضب وغير متجدد؛ فإن كل ذلك يؤكد لنا أن الطريق التنموى الفنزويلى كان بالاعتماد المتزايد على الغير، لا على الذات!
لنرجع الآن مرة أخرى للأسباب الظاهرية للأزمة. فلو كان الاقتصاد الفنزويلى يسير على الطريق السليم للتنمية، وكانت درجة اعتماده على ذاته تتزايد سنويا، ولو افترضنا جدلا أنه قطع شوطا طويلا فى التصنيع الوطنى، وللدرجة التى تمكنه من تنويع هيكل صادراته، وتقليل مخاطر صدمات الواردات، لما استطاعت مشكلة النفط الرخيص، أو وجود بعض العوائق التجارية، أو حتى حدوث بعض التراجع فى الإنتاجية، أن تحدث أزمة اقتصادية بكل هذا الاتساع والعمق.
****
لقد أصبح من الواضح الآن أن الطريق التنموى الخاطئ، والذى سارت فيه فنزويلا منذ بزوغ «عصر النفط» فى سبعينيات القرن الماضى، يفسر جانبا رئيسيا من أزمتها الراهنة. ولكن، هل للظروف الاقتصادية الخارجية دور فى تعميق هذه الأزمة؟ وبمنطق آخر نتساءل: ألا يمكن لنظام دولى للتخصص وتقسيم العمل، أقل ما يوصف به أنه نظام غير عادل، ويعمل لصالح الدول الصناعية المتقدمة، أن يفاقم من أزمة الاقتصاد الفنزويلى، وخصوصا أن فنزويلا تعتبر أحد الأطراف الضعيفة فى هذا النظام الدولي؟
إجابتى المختصرة على هذين التساؤلين هى نعم.
فلقد سارت فنزويلا ــ شأنها شأن أغلب الدول النامية ــ فى ركاب نظام عالمى يستنزف مواردها الطبيعية النادرة بأبخس الأثمان. ثم يعيد لها نفس هذه الموارد، بعد تصنيعها، بأغلى الأثمان. وليس ذلك فحسب، بل إن الموارد الطبيعية النادرة على انخفاض أسعارها العالمية، مازالت تشهد تراخيا تدريجيا فى أسعارها مع مضى السنوات. وفى المقابل، تتزايد أسعار المنتجات الصناعية باضطراد. وقد ترتب على هذه المعضلة الكئيبة أن تدهور وضع فنزويلا فى التجارة الدولية للنصف بين عامى 2012 و 2016، وفق ما ترصده بيانات البنك الدولى عن التطور فى معدل التبادل الدولى (أسعار الصادرات منسوبة لأسعار الواردات).
ومع فداحة الثمن الذى دفعته فنزويلا ــ ويدفعه كل السائرين فى الطريق نفسه ــ كنتيجة منطقية للوقوع فى أسر نظام اقتصادى دولى لا يرحم؛ فلا يجوز، فى ذات الوقت، أن نقلل من مسئولية الأوضاع الداخلية عن السير على هذا الطريق دون غيره. فبينما تسببت ملايين براميل النفط الفنزويلية فى حجب الرؤية عن اختيار الطريق التنموى الصحيح، كانت كوريا الجنوبية والصين وباقى النمور الآسيوية تتلمس أولى الخطوات على طريق التقدم الاقتصادى. ولكى يستقيم منطق التحليل، أقول بوضوح إن الأخطاء الداخلية تنشئ الأزمات، والظروف الخارجية تُفاقمها.
****
على هدى من التحليل المتقدم، يمكن للقارئ الحصيف أن يرى فى المحاولات الحثيثة لوقف نزيف عملة فنزويلا (بوليفار)، عن طريق إصدار عملة جديدة تلغى خمسة أصفار من قيمة العملة القديمة، أنها مجرد محاولات شكلية عاجلة لإطفاء نيران التضخم المشتعلة فى السوق هناك. لكنها لن تتمكن من علاج «المرض الفنزويلى» المتشبث بجسده الاقتصادى المنهك.
فالمرض الفنزويلى المتمثل فى اتباع نمط تنموى يعتمد على الغير، وفى غياب التكنولوجيا الوطنية، وفى تشوه نظام الحوافز، وفى تصدير المواد الخام، وفى تركز هيكل الصادرات، وفى الإدارة غير الرشيدة للفوائض المالية، وفى الوقوع فى أسر نظام التخصص الدولى غير العادل؛ لن تفلح معه هذه النوعية من المسكنات، ولن يُكتب للاقتصاد الشفاء منه إلا بالعمل على محورين رئيسيين. أولهما هو الإصلاح الحقيقى لأخطاء الداخل. ونقطة الارتكاز فى هذا الإصلاح تأتى من صياغة برنامج وطنى يهدف لتشجيع البحوث والابتكارات العلمية، ويسعى لتوطين التكنولوجيا الصناعية محليا، ويجتهد لتحقيق التكامل بين القطاعات الاقتصادية الوطنية، ويضع هدف الاستغلال الأمثل والكامل للموارد الاقتصادية نصب عينيه دائما. وقبل كل ذلك، يطور التشريعات القانونية، ويهيئ المؤسسات الوطنية لتتحمل مسئولياتها كاملة ضمن هذا البرنامج الطموح.
أما المحور الآخر فيتمثل فى التحرر الكامل من قيود الخارج. فإذا كان العجز الصارخ فى ميزان المدفوعات يقيد كل جهود إصلاح أخطاء الداخل، كنتيجة لفجوة الموارد المحلية، فإن القضاء على هذا العجز يحتاج لفرض رقابة صارمة على أنشطة الاستيراد، ويستدعى تقديم حوافز متطورة لقطاع التصدير، والتعامل السريع مع مشكلة التركز الجغرافى للصادرات. ومن المنطقى أن التكامل بين هذه الإجراءات يساهم، تدريجيا، فى تهدئة العجز الاقتصادى الخارجى.
والسؤال المتروك إجابته للقارئ: كم يا ترى عدد الدول التى يتشابه اقتصادها مع الاقتصاد الفنزويلي؟ وهل يمكن أن يطول بنا الزمن حتى يجيء الوقت الذى نتأكد فيه أن كثيرا من دولنا النامية تعانى من «المرض الفنزويلى»؟!

محمد يوسف باحث رئيسي في مركز تريندز للبحوث والاستشارات بدولة الإمارات
التعليقات