اقتصاديات المشاركة في الألعاب الأوليمبية - مدحت نافع - بوابة الشروق
الإثنين 16 سبتمبر 2024 10:22 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

اقتصاديات المشاركة في الألعاب الأوليمبية

نشر فى : الإثنين 12 أغسطس 2024 - 6:15 م | آخر تحديث : الإثنين 12 أغسطس 2024 - 6:15 م

تعددت الدراسات التى تبحث فى الجدوى الاقتصادية لاستضافة دولة ما للألعاب الأوليمبية، ذلك لكون الدولة المضيفة تتحمّل الكثير من النفقات المباشرة وغير المباشرة لتنظيم الحدث الرياضى الأكبر عالميا. وعلى الرغم من صعوبة هذا النوع من الدراسات، وعدم القدرة على حسم نتائجها، إلا أن ثمة نوعا آخر من التكاليف التى تتحمّلها الدول المشاركة فى المسابقات، لم تتناوله الدراسات بشىء يذكر من التحليل.
فى هذا المقال لن أقدّم بالطبع دراسة تحليلية للجدوى الاقتصادية لمشاركة دولة مثل مصر فى دورة الألعاب الأوليمبية، ولن أتطوّع بتحليل العائد والتكلفة لمشاركة البعثة الأوليمبية المصرية فى دورة الألعاب المقامة حاليا فى باريس، نظرا لتعدد التكاليف والعوائد غير المنظورة لهذا النوع من المشاركات. لكننى سأعمد إلى استخدام بعض الدراسات التى تناولت هذه الجوانب بالنسبة للدولة المضيفة، والتى تتقاطع فى جوهرها مع بعض الآثار الاقتصادية لكافة الدول المشاركة.
• • •
عادة ما تشهد المدن المضيفة تأثيرا اجتماعيا ونفسيا إيجابيا، سواء خلال الفترة التى تسبق الأحداث الكبرى أو فى أعقابها. على سبيل المثال، أفاد 80% من المستجيبين لاستطلاع للرأى أجرته هيئة الإذاعة البريطانية عام 2021 (بعد الألعاب الأوليمبية مباشرة) أن الحدث «جعلهم أكثر فخرا بكونهم بريطانيين». وقد حاولت العديد من الدراسات تحديد الفوائد غير الملموسة للألعاب الأوليمبية من خلال استخدام منهجية التقييم الاحتمالى، والتى تبنى مجموعة من أسئلة الاستطلاع المصممة لتقدير القيمة النقدية التى يفترضها الناس لحدث ما. وباستخدام هذا النهج، أجرى «أتكينسون» وآخرون (2008) ووالتون ولونغو وداوسون (2008) دراسات تقييمية متطورة لدورة الألعاب الأوليمبية المقرر عقدها فى لندن عام 2012، وذلك باستخدام أفضل الممارسات. وقد وجدوا أن الأشخاص داخل لندن، وفى مختلف أنحاء المملكة المتحدة أعربوا عن استعدادهم لدفع ثمن استضافة الألعاب أكثر من أى تكاليف مرتبطة بحضورهم الفعلى لأى من الأنشطة المتعلقة بالدورة. وبلغت القيمة غير الملموسة الإجمالية التى تم تحديدها لسكان المملكة المتحدة فى الدراسات حوالى 2 مليار جنيه إسترلينى. ومن الواضح أن هذا المبلغ كبير، ولكنه أقل كثيرا من تكلفة استضافة الألعاب.
ويرى الاقتصادى «أندرو زيمباليست» (مؤلف ثلاثة كتب عن اقتصاد الأولمبياد) أن سبعينيات القرن العشرين كانت بمثابة نقطة تحول تاريخية، حيث كانت الألعاب تنمو بسرعة، إذ تقريبًا تضاعف عدد المشاركين فى الألعاب الأوليمبية الصيفية منذ أوائل القرن العشرين، وزاد عدد الأحداث بمقدار الثلث خلال الستينيات. ولكن مقتل المتظاهرين على يد قوات الأمن قبل دورة الألعاب الأوليمبية فى «مكسيكو سيتى» عام 1968 وهجوم منظمة أيلول الأسود على الرياضيين الإسرائيليين فى دورة ميونيخ عام 1972 كانا سببا فى تراجع اهتمام الدول بتحمّل تكاليف وديون كبيرة من أجل استضافة الأولمبياد. حتى إنه فى عام 1972، أصبحت «دنفر» المدينة المضيفة الأولى والوحيدة التى «رفضت» فرصة الاستضافة، بعد أن أقر الناخبون استفتاءً يرفض الإنفاق العام الإضافى للألعاب. وقد قدّرت دراسة أجرتها جامعة أكسفورد عام 2024 أنه منذ عام 1960، كانت التكلفة المتوسطة للاستضافة ثلاثة أمثال السعر المقدّم فى عطاءات المدن المتسابقة على فرصة الاستضافة.
وقد أصبحت دورة الألعاب الأوليمبية الصيفية لعام 1976 فى «مونتريال» رمزًا للمخاطر المالية المترتبة على الاستضافة، حيث كانت التكلفة المتوقعة البالغة 124 مليون دولار! أقل بمليارات الدولارات من التكلفة الفعلية!، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى تأخير الإنشاءات، وتكلفة إنشاء استاد جديد.. مما أدّى إلى تحميل دافعى الضرائب فى المدينة ديونا تبلغ حوالى 1,5 مليار دولار استغرق سدادها ما يقرب من ثلاثة عقود.
فى حين كانت «لوس أنجلوس» المدينة الوحيدة التى تقدمت بطلب استضافة الألعاب الأوليمبية الصيفية لعام 1984، مما سمح لها بالتفاوض على شروط مواتية مع اللجنة الأوليمبية الدولية. والأهم من ذلك، تمكّنت «لوس أنجلوس» من الاعتماد بشكل شبه كامل على الملاعب والبنية الأساسية القائمة، بدلاً من الوعد بمرافق جديدة باهظة الثمن، لإغراء لجنة الاختيار. من ناحية أخرى ارتفعت عائدات البث التلفزيونى بشكل كبير، مما حقق للمدينة ربحًا يعد الأول من نوعه بين المدن المضيفة للألعاب الأوليمبية سابقا، حيث أنهت العام بفائض تشغيلى قدره 215 مليون دولار.
وقد ارتفعت التكاليف إلى أكثر من 50 مليار دولار للألعاب الأوليمبية الشتوية لعام 2014 فى «سوتشى»، و20 مليار دولار للألعاب الأوليمبية الصيفية لعام 2016 فى «ريو دى جانيرو» و39 مليار دولار للألعاب الأوليمبية الشتوية لعام 2022 فى «بكين»، وفقًا لتقديرات بيزنس إنسايدر. وقد دفعت هذه التكاليف بعض المدن إلى سحب عطاءاتها للألعاب التالية. وفى عام 2021 أصبحت «بريسبان» بأستراليا، مستضيفة الألعاب الصيفية لعام 2032، أول مدينة تفوز بعطاء أولمبى دون معارضة، منذ عام 1984.
• • •
يؤكد عدد من خبراء الاقتصاد أن العوائد التقديرية لاستضافة الألعاب الأوليمبية مبالغ فيها إن لم تكن غير موجودة تماما، إذ تترك الألعاب الدول المضيفة غارقة فى ديون والتزامات صيانة أكبر من طاقاتها. ومع ذلك، تزعم اللجنة الأولمبية الدولية وأنصارها أن الاستضافة يمكن أن ترفع من مكانة المدينة بين دول العالم، وتولّد مزايا اقتصادية استثنائية من خلال السياحة والاستثمارات فى البنية التحتية.
ويرى خبراء الاقتصاد إن ما يسمى بـ«التكاليف الضمنية» للألعاب الأوليمبية يجب أن تؤخذ فى الاعتبار أيضا. وتشمل هذه التكاليف تكلفة الفرصة البديلة للإنفاق العام على أولويات أخرى، أهملت نتيجة للاهتمام باستضافة الألعاب. كما أن خدمة الدين القائم بعد استضافة الألعاب، يمكن أن تثقل كاهل الموازنات العامة لعقود من الزمن. فقد استغرق «مونتريال» حتى عام 2006 لسداد آخر ديونها، الناشئة عن استضافتها دورة الألعاب الأولمبية لعام 1976، فى حين عجّلت مليارات الدولارات من الديون الأوليمبية من إفلاس اليونان. وعلى مستوى الاقتصاد الكلى، لم يجد الاقتصاديان «ستيفن بيلينجز» و«سكوت هولاداى» أى تأثير طويل الأجل للاستضافة على الناتج المحلى الإجمالى للدولة.
وإذا كانت الدول المشاركة تتحمّل تكاليف إعداد وتجهيز وسفر وإقامة الفرق المشاركة فى المسابقات الأوليمبية، فضلا عن تكاليف إثابة المجيدين الحاصلين على ميداليات، فإن العائد الأبرز الذى يمكن أن تحققه تلك الدول من المشاركة، مرتبط بالأثر النفسى الإيجابى للفوز بميداليات أو مراكز متقدمة فى المسابقات المختلفة، والذى من شأنه أن ينعكس على إنتاجية الأفراد. كما يرتبط بأثر السمعة والتسويق للدولة التى ترفع أعلامها ويعزف نشيدها الوطنى مرارا وعلى مختلف الشاشات خلال المسابقات، نتيجة لحصول متسابقيها على أحد المراكز الثلاثة الأولى. قياسا على هذا، فهناك تكلفة سلبية لمخاطر السمعة وانتشار الروح السلبية (وطنيا) نتيجة لتراجع النتائج المحققة فى المسابقات، ناهيك عن الأداء غير المشرّف لبعض المتسابقين، أو إتيانهم سلوكيات منافية للآداب والقيم. يتصل هذا الأثر السلبى بحجم البعثة الرياضية المشاركة، إذ كلما زاد عدد المشاركين ارتفعت توقّعات الناس (فى الدولة المشاركة وخارجها) بحصول عدد كبير منهم على ميداليات أوليمبية.
وإذ تشارك البعثة المصرية فى أولمبياد باريس 2024 بعدد 164 لاعبا ولاعبة فى 22 رياضة مختلفة، بواقع 148 أساسيين و16 احتياطيين، فقد رصدت وزارة الشباب والرياضة ميزانية تبلغ 1,1 مليار جنيه استعدادا لأولمبياد باريس، بزيادة 777 مليون جنيه عن تكلفة بعثة مصر التى شاركت فى أولمبياد طوكيو 2020، والتى شهدت تحقيق أعلى عدد من الميداليات فى تاريخ مصر، مع الوضع فى الاعتبار أن القطاع الخاص دعّم البعثة بنحو 60 مليون جنيه، بخلاف 263 مليون جنيه قدمتها وزارة الشباب والرياضة. هذا المبلغ الكبير يضاف إليه (فى حالات الفوز النادرة) حصول الفائزين بميداليات ذهبية وفضية وبرونزية على 4 و 3 ومليونى جنيه مصرى على الترتيب، وهى أرقام غير مسبوقة فى تاريخ مصر الأولمبى، على حد وصف الوزير.
وإذا كان الإنفاق بالعملة الصعبة (الشحيحة) يجب أن يقابله عائد اقتصادى مباشر أو غير مباشر يبرره ويؤيد صرفه، فإن نتائج البعثة المصرية حتى تاريخ كتابة هذه السطور لا ترقى إلى مستوى الآمال، ولا حجم وتكاليف المشاركة. كما أن الأثر السلبى الناتج عن هزائم غير مشرّفة (بعدم التكافؤ) أو إخفاقات متعلّقة باستبعاد اللاعبين لاختلاف الأوزان! أو خروج أحد أعضاء البعثة عن قواعد الالتزام وتعريض سمعته وسمعة البعثة للخطر! هى كلها خسائر صافية تضاف على تكاليف تجهيز وسفر البعثة الرياضية.
• • •
هناك بعثات رياضية صغيرة للغاية حقق مشاركوها ميداليات ذهبية (كما هى بعثة البحرين وبعثة دومينيكا المكوّنة من 4 أفراد)، مما يجعل العائد على الاستثمار فى إعداد وسفر المشاركين مرتفعا للغاية. ولا يجوز الاحتجاج بالمشاركة بأكبر عدد ممكن كون المتسابقين قد تميزوا قاريا! لأن المنافسات فى قارة مثل أفريقيا لا يمكن أن تعكس المستوى العالمى فى كثير من اللعبات. كما أن الاحتجاج بأن المشاركة الكبيرة هدفها تحقيق الاحتكاك الدولى للاعبين، هو أيضا أمر عجيب! لأن الاحتكاك يتم تحسينه بالمشاركة فى المسابقات الدولية والإقليمية الأقل أهمية، وليس فى المسابقات الأوليمبية!
لقد تعرّضت سمعت الرياضة المصرية لأذى كبير نتيجة المشاركة بهذا العدد من المتسابقين فى أولمبياد باريس، ويجب مساءلة كافة اتحادات اللعبات على أداء بعثاتهم. المحاسبة فى الملف الرياضى وغيره مرتبطة بآليات الاختيار والتكليف وشروط الاستمرار فى المنصب وطرق التقييم.. وكل ما سبق هو جزء من العملية المؤسسية التى تحتاج فى مجملها إلى إصلاح.

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات