نحو حل أممى لمعضلة الديون - مدحت نافع - بوابة الشروق
الأحد 23 فبراير 2025 6:41 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

نحو حل أممى لمعضلة الديون

نشر فى : الإثنين 17 فبراير 2025 - 7:50 م | آخر تحديث : الإثنين 17 فبراير 2025 - 7:50 م

ارتفع حجم الدين العام فى جميع أنحاء العالم خلال العقود الماضية بوتيرة غير مسبوقة، وأدت الأزمات المتتالية فى السنوات الأخيرة إلى تسارع حاد فى هذا الاتجاه. ونتيجة لذلك، تضاعف الدين العام العالمى بأكثر من خمسة أمثال منذ عام 2000 وحتى اليوم. وفى محاولة الولايات المتحدة ومختلف الاقتصادات (خاصة الكبرى) لكبح التضخم غير المسبوق منذ عقود، اتخذت البنوك المركزية قرارات التشديد النقدى، فكان الرفع المتوالى فى أسعار الفائدة على الدولار الأمريكى ومن ورائه عدد من العملات الرئيسة، عاملًا مؤثرًا فى تغذية التضخم المتسرب من تلك الدول إلى الدول المستوردة والمدينة. علمًا بأن الدولار الأمريكى (الأقوى نسبيا بفعل ارتفاع أسعار الفائدة) يتحكم فى 80% من حجم التجارة الدولية، ونسبة غالبة من عملة الديون الخارجية. وجدير بالذكر أن الأشهر التسعة الأولى من عام 2023 قد شهدت قيام 19 دولة بتخفيض متتالٍ فى قيم عملاتها الوطنية أمام الدولار.

 


كيف يمكن إذن إنقاذ الدول المدينة وخاصة النامية من الغرق فى أزمات عميقة للديون؟ علما بأن تلك الدول تكافح النقص الحاد فى مواردها، وتقدم خدمات الدين على أية نفقات ضرورية لغذاء وصحة وسائر خدمات السكان، وليس أدل على ذلك من سريلانكا التى اختارت ألا تتأخر يومًا واحدًا عن سداد خدمات ديونها، حتى ولو كان ذلك على حساب تردّى أوضاع السكان بصورة مقلقة. الجميع يدرك مخاطر التخلّف عن السداد أو تصنيف الدولة على أنها متعثرة. هذا التصنيف من شأنه أن يرفع حجم المخاطر الائتمانية للدولة بصورة مخيفة، ويجعل الديون الجديدة (التى لا غنى عنها ولو فى الأجل القصير) مكلفة للغاية وغالبًا غير ممكنة.
إن ما يقرب من 30% من الدين العام العالمى مستحق على الدول النامية، وتدفع الدول النامية مقابل ديونها أكثر بكثير مما تدفعه الدول المتقدمة (وفقًا لمنظمة أونكتاد). عندما تقترض الدول النامية الأموال، يتعين عليها أن تدفع أسعار فائدة أعلى بكثير مقارنة بالدول المتقدمة، حتى دون النظر فى تكاليف تقلبات أسعار الصرف. وتقترض الدول فى إفريقيا فى المتوسط بمعدلات فائدة أعلى بأربع مرات من نظيراتها فى الولايات المتحدة، بل وأعلى بثمانى مرات من نظيراتها فى ألمانيا. إن ارتفاع تكاليف الاقتراض يجعل من الصعب على الدول النامية تمويل استثمارات مهمة، الأمر الذى يؤدى بدوره إلى زيادة تقويض القدرة على تحمّل الديون والتقدم نحو التنمية المستدامة.
تنفق عدة دول على خدمة الديون أكثر مما تنفقه على خدمة شعوبها، ففى أفريقيا، يزيد إجمالى مدفوعات الفائدة على حجم الإنفاق على التعليم أو الصحة. وتخصص الدول النامية فى آسيا وأوقيانوسيا (باستثناء الصين) أموالًا لمدفوعات الفائدة أكبر من تلك المخصصة للصحة. وعلى نحو مماثل، فى أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبى، تخصص الدول النامية قدرًا أكبر من الأموال لمدفوعات الفائدة بدلًا من الاستثمار. وفى جميع أنحاء العالم، تمنع أعباء الديون المتزايدة الدول من الاستثمار فى التنمية المستدامة.
فى الوقت الحالى، ينفق ما لا يقل عن 19 بلدا ناميا على الفوائد أكثر مما ينفق على التعليم، وينفق 45 بلدا على الفوائد أكثر مما ينفق على الصحة. فى المجموع، هناك 48 دولة تؤوى 3,3 مليار شخص، تتأثر حياتهم بشكل مباشر بسبب نقص الاستثمار فى التعليم أو الصحة بسبب أعباء دفع الفوائد الكبيرة.
فى الاقتصادات المتقدمة، بلغ الدين العام مستويات غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية، رغم بعض الانخفاضات المسجلة مؤخرًا. وفى الأسواق الصاعدة، تراكمت الديون إلى مستويات لم نشهدها منذ أزمة الدين فى ثمانينيات القرن الماضى. وهناك 40% من الدول منخفضة الدخل –أى 24 من مجموع 60 بلدا– بلغت مرحلة المديونية الحرجة أو أصبحت قاب قوسين من الوصول إليها، وهى المرحلة التى يعجز فيها البلد المقترض عن سداد خدمة الدين العام، مما يمكن أن يُحْدِث اضطرابا كبيرا فى النشاط الاقتصادى والتوظيف (كما يفيد تقرير لصندوق النقد الدولي).
• • •
لا تمثل مستويات الدين شديدة الارتفاع مشكلة بالضرورة، حين تكون أسعار الفائدة الحقيقية بالغة الانخفاض، لكنها يمكن أن تجعل الحكومات أشد تعرضا لتشديد الأوضاع المالية العالمية وارتفاع تكاليف الفائدة. ويمكن أن يساهم هذا فى حدوث تصحيحات سوقية، وحركات حادة فى أسعار الصرف، وزيادة ضعف التدفقات الرأسمالية، مما يمكن أن يفاقم القضايا المتعلقة بإمكانية تحمّل الديون. لكن الدول منخفضة الدخل هى التى تواجه فى العادة أصعب التحديات المتعلقة بالدين، وتكون فى العادة أيضًا هى الأقل تسلحًا بالأدوات اللازمة لمواجهتها.
وفى سبيل وضع حل مستدام لمعضلة الديون المتضخمة بفعل تاريخ من تبنّى الفكر الكينزى، والتخلّى عن قاعدة الذهب التى ساهمت فى رواج النقود بشكل كبير بعيدًا عن الاقتصاد الحقيقى، وزيادة تكلفة رأس المال فى محاولة يائسة من البنوك المركزية لمحاصرة التضخم، وزيادة دور صدمات جانب العرض (تكاليف الإنتاج) فى انتشار التضخم ورفع تكلفة خدمة الديون.. أتصور أنه يمكن الدعوة إلى تدشين صندوق عالمى لإعادة هيكلة الديون القائمة، خاصة على الدول النامية التى تعانى من ضيق كبير فى الحيز المالى لموازناتها العامة، بما يؤثر سلبًا على خطط التنمية فى تلك الدول.
الفكرة باختصار تقوم على تأسيس صندوق عالمى برأسمال مناسب، يقوم على شراء نسبة معتبرة من الديون قصيرة إلى متوسطة الآجال، والتى يتوافر فيها الحد الأدنى من التصنيف الائتمانى المقبول. على أن يتولى الصندوق توريق تلك الديون وإعادة طرحها فى السوقين الأولية والثانوية بآجال طويلة وكوبونات صفرية (كلما أمكن). المكتتبون فى رأسمال الصندوق وبعض إصداراته المورّقة هم مؤسسات التمويل الدولية والدول والشركات الكبرى (الدائنة فى الأساس) والتى سوف ترتد إليها مخاطر انفجار الديون عالميا، متى تحولت إلى سلسلة من أزمات التعثر والتخلف عن السداد، تحت وطأة التحولات الكبرى الجارية سالفة الإشارة. كما أن الطرح الثانوى يتيح لمختلف المستثمرين حول العالم بتداول تلك الأوراق المالية.
كذلك يمكن أن يمتلك الصندوق ذراعًا لمبادلة بعض الديون بأصول أخرى، ومنها الأراضى والعقارات وأسهم الشركات.. ويمكن أيضًا أن يكون هناك مصدر لتمويل الصندوق من الأموال المخصصة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، ومن ثم منح معاملة تفضيلية للديون الناشئة عن مشروعات ذات مردود بيئى واجتماعى معتبر، ومنح نقاط ائتمان بيئية للدول التى تحقق تقدمًا ملموسًا فى تخفيف بصمتها الكربونية، وفق خطتها التنموية الواردة بـ«المساهمات المحددة وطنيًا».
سيتمكّن صندوق الدين العالمى من استثمار حصيلة الاكتتاب فى إصداراته فى مشروعات متنوّعة عالية الربحية مستهدفًا الأجل الطويل، ليتمكن من سداد التزاماته المستقبلية، على أن يقوم على إدارة أصوله نخبة من محترفى إدارة الأصول والصناديق السيادية حول العالم. سيكون على الدول التى سوف يساعدها الصندوق فى هيكلة ديونها أن تتبع سياسة رشيدة فى الاستدانة، وأن تخصص الجانب الذى تم توفيره من مصروفات خدمة الدين لمشروعات تعزز من الاستثمار الخاص وتحسّن من خدمات التعليم والصحة للسكان.

 

ملحوظة:
(تمت الاستعانة بكتاب تحولات الاقتصاد العالمى الكبرى.. تحديات وفرص التنمية المستدامة الصادر عن مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة لمؤلفه صاحب هذه السطور)

كاتب ومحلل اقتصادى

 

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات