لست مولعا بكرة القدم ولا أطيق الصبر على مشاهدة شوط كامل من مبارياتها، ومع ذلك تفتننى اللقطات الموجزة لتسجيل الأهداف الجميلة، خاصة تلك المسجلة عبر هجمات مرتدة ناجحة، وقد لفت نظرى منها، كما مئات ملايين البشر عبر العالم، ذلك الهدف البديع الذى سجله كريستيانو رونالدو من هجمة مرتدة فى مباراة كأس أبطال أوروبا بين رُيال مدريد الإسبانى وأياكس الهولندى. شىء متألق الجمال، وكأنه مقطوعة موسيقية من تمرير النغمات عوضا عن الكرات بين رباعى موسيقى الحجرة، وكان فريق الرُيال فى زيه الأبيض يُضفى على مشهد الهجمة المرتدة ثم الهدف التاريخى نوعا من التحليق السماوى كأنما الهجمة لعب طيور ناصعة مفعمة بالحيوية تحلق فى السماء لا تتراكض على الأرض.
هذا الجمال الرياضى الموسيقى استدعى إلى ذهنى، بالتناقض، قبحا كنت أحاول الفكاك منه ضمن تلال القبح المتراكمة علينا منذ عقود، وهو موجة من الغوغائية المندفعة تحت لافتة ثورة 30 يونيو، تمثلت فى جلافات وغطرسات وساديات تمادت فى لقاءات تليفزيونية وكتابات شاردة وبلاغات كيدية للنيابة العامة ضد كُتَّاب وناشطين وشخصيات عامة ممن لهم تحفظات أو رأى مُعارض، ظاهرها الدفاع عن هذه الثورة، وباطنها التعبير عن تكوينات جانحة لأصحابها، تماما كما غوغائية القيادات القطبية التى تمادت فى سنة حكم الإخوان الغابرة والتى بلغت ذروتها على منصة اعتصام رابعة، وعيد ونذير وتهديد وتكفير فى هذا الجانب، وانتقام وهرتلة وعبث سطحى وكيد فى الجانب الآخر، هجمة غوغائية إخوانية ما أن بلغت أوجها وفشلت فى التسديد، حتى اقتنصت الكرة هجمة مرتدة من النوع نفسه وإن من الجهة المقابلة. قبح يرد على قبح، ونحن بين القبحين نختنق!
موقفى معروف من رفضى الذى لم يفتر للفكرة القطبية الإخوانية وحركيتها الإقصائية والعدوانية على الأرض، القول بجاهلية المجتمع، أى تكفيره، والدعوة لحاكمية الله مختزلة فى حكم الجماعة التى تزعم أنها ربانية، وهو ما تم التعبير عنه بفجاجة فى فظاظات الأخونة والتمكين التى أعتقد أنها كانت الجوهر الدافع لخروج غالبية الأمة فى 30 يونيو فيما اعتبرْتُه، وما أزال، ثورة شعبية كاسحة كان حتميا أن تستعين بقوة حاسمة تواجه غطرسة وتشبُّث الفريق الإخوانى القطبى الذى استمرأ الحكم بالمغالبة والإكراه، مما كان ينذر إما بانكفاء هذه الأمة على نفسها قهرا واكتئابا وعطالة، أو الانفجار فى حرب أهلية لم تكن مُستبعدة، ومن هنا كان تدخل الجيش لتفعيل صرخة أغلبية الأمة مروءة لا انقلابا، وهذا ماقلت به وما أزال أقول، خاصة مع سفور وجه العنف القبيح وظهوره فى شوارع القاهرة.
منذ أسبوعين على وجه التقريب، وأنا ألاحظ اندفاعا غوغائيا ينتحل صفة ثورة 30 يونيو ليمارس بشاعات فى صور عديدة عبر برامج ولقاءات تليفزيونية، وكتابات شاردة، وفى عدد من القضايا الكيدية المقدمة للنيابة العامة من أشخاص أستغرب جدا أن يذهب بهم الاندفاع إلى ما ذهبوا إليه ويذهبون، بلاغات بلا منطق تطالب بإسقاط الجنسية عن البعض، وأخرى بلا دليل تتهم بالخيانة ناشطين من ثوار 25 يناير وأصحاب رأى وكُتاب لهم آراء مغايرة فيما حدث فى 30 يونيو وما أعقبه. وبرغم رفضى لكثير من آراء هؤلاء فى هذا الشأن، فإن ذلك لا ينبغى أن ينزع عنهم صفة الوطنية المصرية، أو يُلقى عليهم تهمة فظيعة كالخيانة، خاصة أن من أعنيهم يعيشون بيننا، لم يتمترسوا بفضائية خارجية مريبة ليصبوا علينا تخرصاتهم، ولم تأوهم عاصمة تُحرِّض على هذه الثورة بفجاجة ولقاء عطايا تثير الشكوك.
من أعنيهم ليسوا من هذا الصنف، وبرغم رفضى أو تحفظى على بعض ما يكتبون إلا أننى ضد الكيد لهم بهذه الطريقة المُبتذلة من التشهير إلى الجرجرة فى المحاكم، والتى دأب على ممارسة مثلها محامون شاردون فى عصر مبارك، وتكررت عبر بلاغات محامين صغار من الإخوان فى سنة مرسى، وكلاهما أمران قبيحان، وتكرارهما استمرار للقبح الذى ينبغى أن يتنحَّى عن مسار نأمله جديدا فى مصر الجديدة بعد 30 يونيو، وأعتقد أن دور النيابة العامة أن تقطع الطريق على مثل هذه الشكاوى الكيدية، بحفظها وعدم قبول مثلها من الأساس، ليس فقط بوضوح الكيدية فيها، ولكن لأنها تبتذل اللجوء إلى القانون، وتستخف بجدية تحرى العدالة للعدل، وتسىء أشد الإساءة لثورة 30 يونيو بكل مكوناتها الجليلة والأصيلة.
ما حدث فى مصر منذ 30 يوينو تاريخى، جاد وضخم ومركب وعميق، ولا يجب إفساده أو الإساءة إليه بالخفة والتصاغُر وسطحية التبسيط، وهذه المفاسد كلها تحدث، للأسف، من أناس متحمسون، أو يدعون التحمس لثورة 30 يونيو. وهو اغترار مآله كما كل اغترار إلى تعميق البغضاء وإزكاء الغوغائية، والتدمير لا البناء على أى مستوى، خاصة مستوى الفكر الذى هو أحق الآن بالالتفات إليه، كمكون أساسى من مكونات مواجهة الحرب التى فُرضت على الأمة من جماعات التطرف والعنف والجهالة، والتآمر الخارجى.
هل أزحنا فظاظة لتحل بمكانها فظاظة أخرى؟ هذا هو السؤال، وهذا هو الأخطر إن استمر وتمادى، فبينما هناك مواجهة يُبذل فيها الدم الغالى أو يُهدَر فى جانب، نجد على الجانب الآخر هرتلة وابتذالات لا تتناسب مع نفاسة الدم المصرى، كل دم. وأعتقد أن منع ارتجال واسترسال كثير من المذيعات والمذيعين، وإيقاف أى تجاوز لفظى للضيوف، وانتقاء أهل العلم وأصحاب الاختصاص للإفتاء فيما يشتجر من أمور الدين والدنيا، والالتفاف إلى قضايا البناء لا الهدم، وطرح الأسئلة الكبرى التى تواجه بلادنا داخليا وإقليميا وعالميا، والتقويم لا الانتقام، والفصل بين لؤم القادة الشائخين والمنتفعين فى الجماعة وبراءة الأتباع من الشباب والمتجردين، والحرص على دولة القانون، والرهان على المستقبل. هذه كلها مفردات يمكن بها وبمثلها وبغيرها تصحيح الجنوح الحادث مؤخرا فى الإعلام وغير الإعلام.
أما القضايا الكيدية السياسية التى لا دليل عليها من أفراد ضد خصوم فى الرأى أو فى غير الرأى، فهى مما ينبغى إيقافه، سواء بأن يراجع مقدمو هذه البلاغات أنفسهم تساميا وارتقاء ويسحبوا بلاغاتهم، أو أن تقطع النيابة العامة دابر هذا الغى وهذه الغواية، وترفض قبول مثل هذه البلاغات بمجرد لمح خلوها من أى شق جنائى وجدية قانونية، وهذا هيِّنٌ على عُدول النيابة العامة فيما أظن.
ينبغى أن نتفاعل بنظافة فى القبول والرفض فى كل أمورنا إذا كنا نطمح بجد إلى مصر جديدة عفية وطيبة وجميلة، فالنظافة سر من أسرار الجمال والصحة فى كل شىء، فى المواجهات السياسية كما الفكرية كما فى كرة القدم، فلنفكر فى الأمر، ونجرب بعض التطهر من تلك الهجمة المرتدة القبيحة عندنا، باستدعاء تلك الهجمة المرتدة الجميلة لريال مدريد التى انتهت بهدف كريستيانو رونالدو الخلاب، ففى جمالها سلاسة نظيفة لا تخطئها العين، وهى ترتفع بنا كما كل نظافة جميلة.
كفانا عدوانية مجانية وعشوائية وزبالة فى الشوارع، وفى السلوك! يحدونا الأمل.