سوريا كانت حاضرة بقضيتها فى قمة سان بطرسبرج وهى ليست عضوا فى مجموعة العشرين. كانت حاضرة بثقل يفوق ثقل أعضاء عديدين جاءوا بوفود جرارة، وتصدرت قضيتها اهتمامات القمة رغم أنها لم تكن بندا فى جدول الأعمال.
●●●
القمة كانت كاشفة، بمعنى أنها كانت فرصة لنطلع عن كثب وعمليا على حجم التحولات الجارية فى النظام الدولى وعمقها. تعودنا أن نقضى العام بأسره نخمن ونحاول استخلاص نتائج من تطور علاقات الدول بعضها بالبعض الآخر. نصيب أحيانا ونخطئ كثيرا. فالتفاصيل وبخاصة إذا تعددت وتمددت وتنوعت تكون فى كثير من الحالات العائق الأكبر أمام تشكيل رؤية شاملة لحال العالم فى لحظة من اللحظات. أما فى قمة كتلك التى انعقدت فى المدينة التى حملت اسم القديس بطرس قبل أن يقرر الشيوعيون أنها تستحق اسم الرفيق لينين، فيتعين على المتابع المتخصص أن يرى القضايا الدولية وقد اجتمعت فى بوتقة واحدة وقد نفضت عن نفسها غبار الغموض والالتباس وخلعت رداء الخصوصية والانفراد.
●●●
لم يكن خافيا علينا كمراقبين من الخارج، ولا على الخبراء والسياسيين الذين اشتغلوا طويلا فى الإعداد لهذه القمة، أن القطب الأكبر فيها، وهو الولايات المتحدة، يشعر أن الزمن الراهن ليس أحسن أزمنته وأن أداءه لن يكون على المستوى اللائق بمكانته أو بدوره فى أعمال القمة منذ أن كانت قمة السبع ثم الثمانى إلى أن أصبحت قمة العشرين.
وصلت الوفود إلى سان بطرسبرج، ومنها وفد روسيا، متأثرة جميعها بسلسلة من الأحداث كانت أمريكا اللاعب الأساسى فيها. جاءت متأثرة مثلا بقرار مفاجئ اتخذه الرئيس أوباما يعكس نية أمريكا فى أن تشن حربا جديدة. جرت العادة فى عقود سابقة على اعتبار مثل هذا القرار حدثا عاديا فى السياسة الأمريكية وإن كان يرتب على الدول مسئوليات معروفة ومتوقعة. ولم يتوقف العمل بهذه العادة إلا بعد أن اتضحت للعالم كله العواقب الكارثية التى تسببت فيها الحرب ضد العراق، بل يمكن القول بأنه لم يعد يوجد فى أمريكا نفسها إلا قليلين جدا مثل رامسفيلد ورفاقه من المحافظين الجدد ممن يعتقدون أن الحرب كانت ضرورية.
وبسبب عواقب حرب العراق جاء أوباما إلى الحكم محمولا على رغبة شعبية بوقف كافة الحروب. قال هو نفسه قبل أيام، جئت إلى الحكم بطلب من الشعب الأمريكى لأوقف الحروب. وقدم الدليل حين قرر سحب جيوشه من أفغانستان وتخفيض الإنفاق العسكرى. ولعله كان صادقا، بل ولعل هذا الموقف هو الذى جعل باراك أوباما يظهر فى مؤتمر قمة العشرين، كما لو كان مترددا أو متخبطا أو مرتبكا.. أو وهو الأدهى جعله يظهر كما لو كان يحمل رسالة إلى العالم فحواها أن «أمريكا تعتذر عن انسحابها من منصب الزعامة».
تعددت التفسيرات أو التبريرات لسلك الرئيس الأمريكى فى القمة. سمعنا من يقول إن الرئيس كان منهكا بعد أسبوع أو أكثر من «المناكفة» مع المشرعين وقادة الرأى الأمريكيين حول عزمه توجيه ضربة عسكرية إلى سوريا. آخرون قالوا إنه جاء إلى روسيا غاضبا بسبب قبولها طلب ادوارد سنودن الباحث بهيئة الأمن القومى الأمريكية اللجوء فيها.
قيل أيضا إن هناك فى أمريكا من حذروا من أن الرئيس بوتين أعد له كمينا ليكتشف العالم حدود القوة الحقيقية للولايات المتحدة، حين يصل إلى المؤتمر فيجد دعما ضعيفا أو لا دعم على الإطلاق من غالبية أعضاء القمة وبخاصة من حلفائه الأقربين. كان فلاديمير بوتين، بل كنا جميعا، نعرف أن المشرعين البريطانيين كبلوا رئيس الوزراء كارادون برفضهم دخول بريطانيا شريكا لأمريكا فى الحرب، وكان يعرف، وكنا نعرف، أن انجيلا ميركل لن تجازف بحكومتها وائتلافها من أجل دعم أوباما، وأن دول البريكس لن تدعم أمريكا وبخاصة السيدة روسيف رئيسة البرازيل وكذلك رئيس المكسيك وكلاهما غاضب باكتشافه خيانة الحليف والجار الأكبر الذى يتجسس عليهما. كذلك كان بوتين يعرف أن أوباما وصله أنه وان كان فى القمة عرب مؤيدون له إلا أن العرب على وجه العموم رافضون توجيه ضربة لسوريا.
●●●
أستبعد أن يكون فلاديمير أعد كمينا أو مصيدة ليصطاد باراك، أو بالأحرى أمريكا القطب الأعظم. لم يكن بحاجة لأن يقوم بمجهود كبير ليكتشف حدود قوة الغرب بقيادة أمريكا. باراك نفسه وفر على فلاديمير هذه المهمة. فقد قيد أوباما نفسه بتصريح حذر فيه حكومة دمشق من استخدام السلاح الكيماوى باعتباره خطا أمريكيا أحمر. هذا القيد، جعله يبدو، فى أعقاب استخدام السلاح الكيماوى، مجبرا على إعلان النية فى شن حرب ضد سوريا. فى الوقت نفسه، سمح للكونجرس الأمريكى بتقييد حريته فى اتخاذ قرار الحرب الذى يفرضه تجاوز الأسد للخط الأحمر، حين طلب من الكونجرس قرارا بشن الحرب أو على الأقل الموافقة على قراره توجيه الضربة. فبدان متناقضان يعكسان حالة تخبط أو سوء إدارة أو على الأقل تردد فى صنع القرار.
●●●
وفى القمة تعددت الأخطاء أو التصرفات الأمريكية التى اساءت ايما إساءة إلى الموقف الأمريكى، إذ بدا واضحا للكافة ان أوباما، أعلن نيته شن ضربة عسكرية لسوريا، ولم يكن قد اختار حلفاءه فى الحرب. لذلك كان مثيرا للاندهاش هرولة المسئولين الأمريكيين بحثا عن مؤيدين وحلفاء، وبخاصة الحليف الذى يقبل أن يتولى مهمة الحرب البرية بعد أو خلال الضربات الجوية والصاروخية الأمريكية، وكان مثيرا للسخرية اعتذارات أصدقاء أمريكا وحلفائها الواحد بعد الآخر عن القيام بدور «المكمل» للضربة الأمريكية.
●●●
كان غريبا، بل ومستهجنا لدى صانعى الرأى فى العالم العربى، اكتشافهم ان الخارجية الأمريكية، فى سعيها الحار للحصول من العرب على تأييدهم الكامل والصريح والمؤكد، لجأت إلى اللجنة العربية المسئولة عن المبادرة العربية للسلام مع إسرائيل المقرر سلفا انعقادها فى باريس بعد ايام قليلة من انتهاء اعمال قمة العشرين ليصدر أعضاؤها تأكيدا جديدا بدعم الموقف الأمريكى. هنا أيضا لم يكن الأمريكيون موفقين حيث أن الوفد المصرى المشارك فى اللجنة عاد فأصر على موقفه المتميز والمعلن من قبل، وهو رفض توجيه أى ضربة عسكرية إلى سوريا. ولا يخفى أن هذا الرفض المصرى يحمل، ويجب من وجهة نظرى الشخصية أن يحمل، فى ركابه تداعيات مهمة ليس فقط على مجمل الفكر الأمنى والسياسى فى مصر، بل وعلى مجمل العمل العربى المشترك فى الأسابيع والشهور المقبلة.
●●●
كانت القمة كاشفة. كاشفة للأساليب التى طرأت أو تغيرت فى عملية صنع السياسة فى واشنطن، وكاشفة للمدى الذى وصلت إليه مرحلة «ما بعد الكولونيالية» فى السياسة الدولية. رأينا بريطانيا تتخلى لأول مرة عن المشاركة فى تدخل عسكرى غربى، ورأينا أثر هذا التخلى على مواقف وسياسات دول أوروبية أخرى. رأينا فرنسا وهى تعلن على لسان رئيسها وعلى الملأ أنها لا تملك القوة الكافية لتقف وحدها ضد سوريا، الدولة الصغيرة التى كانت إلى عهد قريب خاضعة لها ومحتلة بجيوشها. ولكننا رأينا ما هو أهم كثيرا، رأينا أمريكا وقد صارت غير قادرة على ان تشن ضربة عسكرية، أى صاروخية وجوية، ضد دولة من دول العالم الثالث، لمجرد الشك فى أن هذه الضربة قد تستدعى إنزالا بريا فى حال تدخلت عناصر مسلحة من خارج الحدود، أو فى حال اشتدت المقاومة السورية وتحولت الضربة حربا.
●●●
لم يكن العالم فى أيام الكولونيالية والحرب الباردة يسير على هذا النحو. كثير مما رأيناه يحدث على مشارف قمة العشرين وأثناء انعقادها ثم بعدها، جديد علينا.