فى مقال سابق بتاريخ 13 أغسطس 2023 حول الصعوبات التى واجهت المفاوض المصرى فى مفاوضات السلام مع إسرائيل، أشرت إلى العقبة الكأداء التى كادت أن تودى بالمسار التفاوضى وهى الخاصة بأولوية الالتزامات، حيث أصرت إسرائيل على النص بأنه فى حال تعارض التزامات مصر بموجب هذه المعاهدة والتزاماتها الأخرى فإنها هى التى تنفذ التزاماتها تجاه إسرائيل، وكان المقصود بالطبع هو التزامات مصر العربية خاصة الدفاع العربى المشترك.. وقد وعدت القراء بأن أواصل الكتابة حول الصعوبات الأخرى التى واجهتنا..
●●●
أدت أزمة «أولوية الالتزامات» إلى تعقد الموقف والوصول إلى طريق مسدود، وقبل توقف المفاوضات تقدم الوفد المصرى بتعديلات على النص الذى تقدمت به أمريكا والذى يقضى بأن «الالتزامات الناشئة عن هذه المعاهدة سوف تسود على التعهدات الدولية السابقة التى تتعارض معها وكذلك على أى نصوص فى القانون الداخلى تتنافى معها». وكان التعديل المصرى يقضى بإضافة فقرة إلى النص الأمريكى المقترح تقول «مع عدم الإخلال بالمادة 103 من ميثاق الأمم المتحدة»، وهى المادة الخاصة بحق الدفاع الشرعى؛ الفردى والجماعى عن النفس.
كان التعديل المصرى يهدف بالطبع إلى الحفاظ على التزاماتنا بموجب اتفاق الدفاع العربى المشترك، وإزاء رفض التعديل المصرى وتوالى التعديلات المقترحة من الطرفين على المواد الأخرى من المعاهدة التى سبق إقرارها، تقدمت الولايات المتحدة بنص للمعاهدة يتضمن المواد السابق إقرارها ويبقى المادة الخلافية بشأن أولوية الالتزامات مفتوحة للتفاوض ومدرجة بين أقواس، وطالبت الأطراف بإعلان أن النص الذى تم التوصل إليه نصا مغلقا Closed Text لا يمكن فتح النقاش بشأنه.
●●●
وهكذا وبعد مضى 59 يوما من التفاوض صدرت التعليمات للوفد المصرى بالعودة للقاهرة وذلك بعد مراجعة النص وإعداد الترجمات العربية والعبرية له وإعداد تقرير حول المهمة التفاوضية منذ بدايتها، وكلفت أنا بالفريق الذى سيتولى مراجعة النص العربى.
جلسنا مع الطاقم الإسرائيلى المكلف بالترجمة العربية الذى بدأ الجلسة بالتساؤل عن عنوان المعاهدة وهل هى معاهدة صلح أم معاهدة سلام، مشيرا إلى أنه حسب علمهم فإن هناك فرقا فى اللغة العربية بين Peace Treaty التى تترجم معاهدة صلح وبين Peace Agreement التى تترجم معاهدة سلام.. حاولت جاهدا أن أخفى الدهشة التى ساورتنى.. نظرا لأنه قد حدث بالفعل نقاش حول هذا الموضوع فى اجتماع مغلق بوزارة الخارجية المصرية قبل ذلك بأكثر من ست سنوات.. وتفاصيل ذلك كالتالى..
كان مبعوث الأمم المتحدة السويدى السفير/ جونار يارنج قد مل من المراوغات الإسرائيلية التى لا تنتهى فقرر بعد مضى أربع سنوات على مهمته وضع حد لها.. فقرر توجيه مذكرة إلى الطرفين ــ مصر وإسرائيل ــ فى 8 فبراير 1971 تتضمن أسئلة واضحة ومحددة أهمها هل تقبل إسرائيل الانسحاب من جميع الأراضى المصرية المحتلة؟، وهل تقبل مصر فى هذه الحالة توقيع معاهدة سلام مع إسرائيل؟
كان الرد المصرى بالإيجاب، أى إنها تقبل توقيع اتفاق سلام مع إسرائيل وكان ذلك فى 15 فبراير 1971. وبعد ذلك بفترة وجيزة.. رأى السيد محمود رياض وزير الخارجية ــ رحمه الله ــ أن يجتمع بجميع أعضاء السلك الدبلوماسى للاستماع إلى آرائهم فى مبادرة غير مسبوقة حيث كانت اجتماعات الوزير عادة تقتصر على وكلاء الوزارة ومديرى الإدارات.
عقد الاجتماع فى مبنى التحرير، وحينما حلت فترة الأسئلة قمت فوجهت السؤال التالى إلى السيد/ محمود رياض وقد كنت وقتها بدرجة سكرتير ثان أى فى عداد صغار الدبلوماسيين، فقلت: إننى أفهم أننا كنا نرفض التفاوض المباشر مع إسرائيل لما يضفيه هذا التفاوض من اعتراف ضمنى بإسرائيل، ولكن الآن وبعد أن قبلنا القرار 242 الذى يعترف بحق كل دولة فى الشرق الأوسط فى أن تعيش داخل حدود آمنة ومعترف بها، وبعد أن تضمن ردنا على جونار يارنج استعدادنا لتوقيع اتفاق سلام مع إسرائيل.. فلماذا نستمر فى رفض التفاوض المباشر معها؟
لم يعجب السؤال المرحوم محمود رياض وقال بلهجة عسكرية جافة «اتفضل اقعد».. ثم مال على وكيل الوزارة الجالس إلى جانبه الذى مال على مدير إدارة الهيئات الدولية الجالس بجواره السفير المرحوم أحمد توفيق خليل وعلمت فيما بعد أنه كان يسأل عنى، ثم شرع يشرح وجهة نظره فقال.. «الناس مش فاهمة.. هناك فرق بين اتفاق سلام Peace Agreement ومعاهدة سلام Peace Treaty فالأخيرة تعنى الصلح وإنهاء الصراع أما الأولى فهى اتفاق سلام فقط»، أى إنه يريد أن يقول إنه يمكننا عقد اتفاق سلام مع إسرائيل دون أن يضفى ذلك عليها اعترافا من جانبنا.. أما الذى يضفى الاعتراف فهو اتفاق الصلح.
بعد ذلك بأسابيع قلائل كانت الدكتورة عائشة راتب، أستاذة القانون الدولى، تلقى محاضرة بجمعية القانون الدولى تعرضت فيها إلى هذا الجانب فقالت إنها سمعت أن السيد/ محمود رياض وزير الخارجية له وجهة نظر تفرق بين معاهدة السلام واتفاقية السلام، بينما فى الواقع لا توجد أى فروق بين المصطلحين فالمعاهدة والاتفاقية والاتفاق كلها مسميات لشىء واحد..
شرحنا للجانب الإسرائيلى أنه إذا كان فى الماضى قد أطلق تعبير اتفاقية الصلح على معاهدة فرساى التى أنهت الحرب العالمية الأولى، فقد استقر الأمر الآن على إطلاق عبارة اتفاقية أو معاهدة السلام على العبارة الإنجليزية Peace Treaty وهذا هو التعبير المستخدم رسميا بالأمم المتحدة.
●●●
لقد وضح جليا خلال التفاوض مع الإسرائيليين أن الشك هو المحرك الأول لعقليتهم.. إنهم يشكون فى كل شىء حتى أنفسهم «يحسبون كل صيحة عليهم».. وقد حدث أثناء إحدى الجلسات أن اقترح المستشار القانونى للوفد الإسرائيلى السفير/ مائير روزين نصا قبله نظيره المصرى الدكتور/ أسامة الباز بسرعة فما كان من روزين إلا أن صرخ «انتظر لحظة»، وأعاد النظر فى اقتراحه وسط ضجة القاعة بالضحك.. فقد شك فى اقتراحه بعد أن وجد أن مصر قبلته بسرعة..
●●●
عاد الوفد المصرى للقاهرة ومعه مشروع المعاهدة التى تم التوصل إليها بما فيها المادة الخلافية الموضوعة بين الأقواس، وفى محاولة من إسرائيل للسيطرة على زمام المبادرة الإعلامية أعلنت أنها تقبل النص الذى تم التوصل إليه فى واشنطن بدون أى شروط مسبقة سوى قبول مصر له.. ولم يكن فى وسع مصر قبول المادة السادسة الخلافية بأى حال من الأحوال ولذلك وصلت الأمور إلى طريق مسدود إلى أن قام الرئيس الأمريكى كارتر بمهمته المكوكية بين الطرفين والتى تم التوصل خلالها بحل مقبول للطرفين كما شرحنا فى المقال السابق.