عامية شوقي - أحمد مجاهد - بوابة الشروق
الإثنين 6 يناير 2025 11:27 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عامية شوقي

نشر فى : الإثنين 12 أكتوبر 2009 - 9:59 ص | آخر تحديث : الإثنين 12 أكتوبر 2009 - 9:59 ص

 كتب أحمد شوقى أمير شعراء الفصحى طوال حياته خمسة عشر نصا عاميا فقط، منها ثلاثة عشر لمحمد عبدالوهاب، بالإضافة إلى نشيد حفل افتتاح معهد الموسيقى العربية عام 1929 الذى لحنه مصطفى بك رضا رئيس المعهد، وموال(ساهى الجفون) ليوسف المنيلاوى.

وبغض النظر عن أنه قد اتجه إلى الكتابة بالعامية حتى يغنيها عبدالوهاب، فإن تجربته جديرة بأن نتأملها لنرى كيف كتب شوقى نصوصه العامية؟

ولتكن بدايتنا مع الموال، حيث يقول مثلا:
سِــيد القمر فى سماه والبان فى عوده
تحت الليالى عليل قول للخيال عوده
شاف المقدر وشاف فى الحب موعوده
إمتى يعود لى وأقول للكاس والندمان
عاد الحـبيب يا حـبايب للطـرب عودوا

فالمشكلة الفنية التى تواجه كاتب الموال هى إتيانه بكلمات متوافقة الأصوات مختلفة المعانى. وفى الموال السابق كلمة عوده الأولى تعنى قده وقوامه، والثانية تعنى زيارة المريض، وموعوده تعنى قَدَرَهُ، أما عودوا الأخيرة فبمعنى ارجعوا. وهكذا نجح شوقى فى كتابة الموال بمقدرة واقتدار دون أن يُشْعِر القارئ بأنه يقوم بلعبة لغوية صعبة.

أما نصوصه العامية الأخرى فكثيرا ما يظهر فيها تأثره بنصوص فصيحة، ففى أغنية (اللى يحب الجمال) مثلا يقول عن الحب:

تيجى تصيده يصيدك ومين سلم من حباله
وهذا يذكرنا بقول الحصرى القيروانى:
وكفى عجبا أنى قَنِصٌ للسرب سبانى أَغْيدُهُ

ومما يدعم هذا الزعم بالتأثر، أن شوقى يكمل النص متحدثا عن أثر العيون تحديدا فى تحويل الصياد إلى فريسة، حيث يقول:

يا للى ما دقت الغرام من العيون الســـــــلامة
اسـلم بروحك حــرام دى العين تقيم القيامة
الاسم عـين وتلاقيها قدح وخمره وساقى
وسحبة الرمش فيهـا من بابل الســـحر باقى

وهذا تماما هو رأى الحصرى فى قصيدته السابقة، حيث يقول:
يا من سفكت عيناه دمى وعلى خديه توردُهُ
خداك قد اعترفا بدمى فإلى ما طرفك يجحدُهُ
إنى لأعيذك من قتلى وأظنك لا تتعمدُهُ
كلا لا ذنب لمــن قــتلت عيناه ولــم تقتل يدُهُ

وقد يتحول هذا الزعم إلى يقين عندما يعلم القارئ أن شوقى قد تأثر بقصيدة الحصرى القيروانى وكتب معارضة فصيحة لها، تبدأ بقوله:

مُضْنَاك جَفاهُ مَرْقَدُهُ وبكاه ورَحَّمَ عُوَّدُهُ

أما البيت الأخير من نص شوقى العامى السابق، والذى يشير فيه إلى أن سحبة الرمش لها أثر قوى كسحر بابل، فإنه يذكرنا بقول شوقى نفسه فى إحدى قصائده الفصيحة:

السِحْرُ من سودِ العيونِ لَقِيتُهُ والبابلىُّ بِلَحْظِهنَّ سُقِيتُهُ

أما أغنية (فى الليل لما خلى) فإن تأثر شوقى فيها بالتراث الفصيح أكثر وضوحا، حيث يقول فى الأبيات الثلاثة الأولى:

فى الليل لما خلى إلا من الــباكى
والنوح على الدوح حلى للصارخ الشاكى
ما تــــــعـــرف المـبتــــلــــى فى الروض من الحاكى

فإنه يذكرنا على الفور بقول المعرى:

غَيْرُ مُجْـدٍ فى مِلَّتِى واعتقادى نَوْحُ بَاكٍ ولا تَرَنُّمُ شادى
وشَبيهٌ صـوت النَعِىِّ إذا قيس بصوت البشير فى كل نادى
أبكت تلكم الحمامة أم غنت على فرع غصنها الميادى

أما الأبيات الثلاثة التالية،فيقول فيها:

سكون ووحشه وظلمه وليل ما لوش آخر
ونجـمه مالت ونجـمه حـــلفت ما تتأخر
دا النوم يا ليل نعــمه يحـــلم بها الساهر

فإنها تذكرنا بالمشهد المهيب لليل الكئيب الذى وصفه امرؤ القيس فى معلقته،حيث قال:

ولَيْلٍ كموج البحر أرخى سدولَهُ علىَّ بأنواع الهموم ليبتلى
فقـلت لــــه لما تمطَّى بصلبه وأردف أَعْجَازا وناء بكلكلِ
ألا أيها الليل الطــويل ألا انجلى بصبحٍ وما الإصباح منك بأمثلِ

أما بيت شوقى الذى يتحدث عن النجمة التى (حلفت ما تتأخر) فإنه يكاد يكون ترجمة عامية لبيت امرئ القيس:

فيا لك من ليلٍ كأن نجومه بكل مُغَارِ الفَتْلِ شُدَّتْ بِيَذْبُلِ

حيث توازى نجوم شوقى البليدة التى تأبى التحرك، نجوم امرئ القيس التى تم ربطها فى جبل (يذبل) بأقوى أنواع الحبال.
وإذا كان تاريخ شوقى مع الفصحى جذبه إليها دون وعى أثناء كتابته بالعامية، فإننا لا نعدم وجود إبداع شعرى عامى متميز لشوقى، فحتى فى أغنيته السابقة يقول واصفا انبلاج الخيط الأبيض للفجر من الخيط الأسود لليل:
الفجـــــر شقشق وفـــــاض على سواد الخميلة

لمــــــح كلمــــــح البياض من العيون الكحيلة
والليل سرح فى الرياض أدهم بغره جـــميله

فالفجر قد شقشق بأصوات طيوره،بعد أن فاض سواد الليل كالنيل الذى تغمره سمرة الطمى فى فيضانه. كما أن أول ضوء للفجر قد لمع فى لمحة خاطفة، كالتى يمكنك أن تقتنص خلالها رؤية بياض عين كحيلة لامرأة جميلة، كشفت وجهها للحظة ثم أخفته ثانية. عندئذ أدرك الليل أنه منهزم لا محالة، فولى هاربا فى الرياض كفرس أسود له بقعة بيضاء فى مقدمة رأسه.

ولا شك فى أن الصورة جميلة، وإن كانت بعض ألفاظها وعناصر تكوينها تمتزج بالمعجم الفصيح. لكن هذا لا يمنع أن حرفية شوقى فى إبداعه العامى قد تصل أحيانا إلى درجة أن القارئ قد يحار: هل الذى كتب هذا المقطع هو أحمد شوقى أم بيرم التونسى؟

فهو يقول مثلا واصفا الورد فى أغنية (بلبل حيران):
تبارك اللى خَلَقْ ظِلَّك من الخفة
واللى كَسَاك الوَرَقْ ولَفّه دى اللفة
زى القُبَل وَلِّفِـــتْ شِــفه عـلى شِفه

إن العامية تتغلغل لفظا وروحا فى نسيج الصورة الشعرية السابقة، لتثبت أن الشاعر شاعر فى فصحته أو عاميته، وأن اللغة بالنسبة للشاعر كالألوان للرسام، فالعبرة بالقيمة الفنية للنص، وليس بالمادة المستخدمة فى صناعة تشكيله الجمالى.

التعليقات