أودى ديكل ونافى شيلو
الحكومات الإسرائيلية غير القادرة على اتخاذ قرارات صعبة وتطبيقها، تحاول شراء وقت الهدوء المستمر أطول مدة ممكنة فى ساحة الصراع. لكن عدم التقدم فى اتجاه حلّ، وإدمان الطرفين الإسرائيلى والفلسطينى حالة إدارة الصراع يعمّقان من تعقيد الساحة، وصولا إلى لحظة لن يكون ممكنا فيها وجود كيانين سياسيَّين فى المستقبل، يهودى وفلسطينى، واضحيْن ومنفصليْن، سياسيا وجغرافيا وديموغرافيا. المعنى هو تهديد جوهر دولة إسرائيل كدولة يهودية، «ديمقراطية»، آمنة ومتطورة. يتم تحليل التهديد الكامن فى هذا الواقع من خلال الاستناد إلى الوضع القائم فى القدس، كنموذج لدمج المجتمعيْن اليهودى والفلسطينى فى إطار واحد.
• • •
كيف سيبدو واقع «دولة واحدة ثنائية القومية» بين النهر والبحر؟ منذ تجديد الاستيطان اليهودى فى «أرض إسرائيل»، منحت قيادات الحركة الصهيونية البعد الديموغرافى أهمية فائقة. اليوم، عدد اليهود تقريبا مساوٍ لعدد العرب. فهل هناك احتمال أن يكون لشعبين متساويَين من حيث الحجم (حتى بميزان 60% لليهود و40% للشعب الفلسطينى، من دون قطاع غزة)، يعيشان حالة صراع لأعوام طويلة، إثنية، وقومية، ودينية، ويطالبان بملكية الأرض نفسها، وبالقدس عاصمة، أن يكون لديهما القدرة على العيش سويا؟ كى يعيش المجتمعان بهدوء، يجب أن يتحقق شرطان: مساواة مدنية كاملة، وتعاوُن كامل، وثقة بين الشعبين.
للوصول إلى اتفاق واسع فى المجتمعَين على وضعية «دولة واحدة»، يجب أن يكون هناك اتفاق واسع على كلّ ميزة من ميزاتها السيادية المشتركة ــ الدستورية، والاقتصادية، والاجتماعية، والأمنية. كيف يمكن إقناع اليهود الإسرائيليين بالتنازل عن الدولة اليهودية واستبدالها بالديمقراطية ــ الثنائية القومية، بعد 74 عاما من الاستقلال والحروب الدامية؟
استنادا إلى قراءة واعية للظروف القائمة فى المجتمعين ــ قوة الكراهية المتبادلة؛ اللا مبالاة تجاه معاناة الآخر؛ عدم وجود رغبة جدية فى المصالحة والتعايش؛ طموح الشعب الفلسطينى القديم إلى الحكم الذاتي ــ من السهل الوصول إلى استنتاج أن نشوء وضع يعيش فيه المجتمعان الفلسطينى والإسرائيلى بالتوافق ليس احتمالا، بل أمرا مستحيلا. هذا بالإضافة إلى أن الدولة الواحدة لن تعمل كما يجب.
بهدف فهم واقع «الدولة الواحدة»، درسنا السيناريوهات والتحديات الممكنة فى هذا الواقع. ففى أغلبية السيناريوهات، يندفع الطرفان إلى اشتباك حاد. الفلسطينيون لم يقبلوا بمقابل أولّى وطالبوا بحقوق متساوية بالكامل، وإغلاق الفجوات الاقتصادية ــ الاجتماعية (وضمنه المكانة الاجتماعية، والتعليم، والرفاه، وغيرها). مشاعر الظلم استمرت لديهم، وكذلك اتهام الجانب اليهودى بسوء الوضع. هذه المشاعر رفعت مستوى العنف والإجرام. من هنا، ترتفع حدة التوتر بين الشعبين، ولا تقلّ فى إطار واقع يكون فيه الفلسطينيون جزءا من الدولة الواحدة ذات الهوية اليهودية، من دون اعتراف بهويتهم القومية الفلسطينية. هذا بالإضافة إلى أنه لن يكون هناك فى هذه الدولة هوية معرفة ــ فلسطينية أو يهودية ــ وهو ما سيرفع مستوى هذه المشاعر.
إذا كان الأمر كذلك، فإن إقامة «دولة واحدة» لن تمنع الاحتجاج الفلسطينى «العنيف»، وكذلك الاحتجاج اليهودى الذى لن يقبل بالوضع الجديد. ولذلك هناك احتمالان: الأول، انفصال سياسى ــ لسلطتين سياسيتين واضحتين، جغرافية وديموغرافية؛ أما الثانى فهو منح حقوق متساوية وكاملة للشعب الفلسطينى فى الدولة الواحدة. ولكن معنى منح الشعب الفلسطينى حقوقا كاملة هو أنهم سيستطيعون السكن أينما أرادوا فى «حدود» دولة إسرائيل، وسيكون هناك عودة جماعية للاجئات واللاجئين الفلسطينيين، كما سيكون لهم الحق فى الانتخاب والترشّح إلى انتخابات الكنيست، وتؤلَّف الحكومة من أفراد فلسطينيين ويهود. وسيتم تشريع قوانين لمصلحة الشعب الفلسطينى، ويمكن تغيير رموز الدولة.
بالنسبة إلى تقسيم الأرض: يبدو أن واقع «دولة واحدة» سيكون جيدا للمستوطنات والبؤر الإسرائيلية فى الضفة الغربية، حيث يبقى سكانها فى مكانهم من دون خوف من الإجلاء. لكن هذه المستوطنات أقيمت على «أراضى دولة»، وأحيانا على أراضٍ فلسطينية خاصة، وصادقت «الإدارة المدنية» والنظام القضائى الإسرائيلى على مصادرتها من أجل الاستيطان. فى واقع «دولة واحدة»، ستكون «أراضى الدولة» مخصصة أيضا لحاجات المجتمع الفلسطينى، ولن تستمر فى السماح بمصادرة الأراضى الفلسطينية الخاصة لمصلحة الاستيطان اليهودى. من المتوقع أن تتوسع البلدات الفلسطينية وتحيط أيضا بالبلدات اليهودية ــ وهو ما سيرفع منسوب التوتر بين المجتمعَين، وضمنه «الجريمة» و«العنف»، أكثر مما هو موجود اليوم. المراحل المقبلة ستكون لمطالب فلسطينية بإيقاف قانون «أملاك الغائبين» واستعادة الأملاك فى القدس وحيفا ويافا واللد والرملة وقرى ومدن أُخرى، حيث كان يقيم المجتمع الفلسطينى قبل إقامة دولة إسرائيل.
• • •
القدس كنموذج لواقع الدولة الواحدة. تشكل القدس نموذجا من نمط الحياة فى واقع «الدولة الواحدة». ففى سنة 1967، قامت حكومة إسرائيل بضم شرقى القدس وتطبيق القانون الإسرائيلى عليه، وعمليا، خلقت بذلك «مدينة واحدة لشعبين». سكان القدس الشرقية معرّفون بأنهم «سكان دائمون»، يحملون الهوية الإسرائيلية ولهم الحق فى التصويت فى الانتخابات المحلية للبلدية، والحق فى تقديم طلب الحصول على جنسية إسرائيلية، تمنحهم جواز سفر إسرائيليا وحق التصويت للكنيست. حاليا، يقوم النظام البيروقراطى فى وزارة الداخلية بتأجيل المصادقة، بقدر الإمكان، على عدد الطلبات المرتفع من سكان شرقى القدس للحصول على الجنسية. الفلسطينيات والفلسطينيون فى شرقى القدس قاطعوا الانتخابات البلدية استجابةً لقرار منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة. كان هدف هذه السياسة منع الاعتراف بسيادة إسرائيل فى المدينة. لكن مؤخرا، هناك مطالبات من سكان القدس بالتصويت فى الانتخابات البلدية، وحتى مطالبات برفع أعداد حمَلة الجنسية. فإذا حدث هذا السيناريو فعلا، فإن العرب فى شرقى القدس سيشكلون ثلث المقاعد فى المجلس البلدى، وهو ما يجعلهم لاعبا مركزيا فى تشكيل سياسات القدس، وحتى هويتها. ويجب الإشارة أيضا إلى أنه وعلى مدار الأعوام الـ55 الماضية، تقلصت الأغلبية اليهودية فى القدس من 74% إلى نحو 60% فقط.
تحليل الواقع الاجتماعى ــ السياسى للقدس يشير إلى أن الفجوات تعمقت ما بين المجتمعين اليهودى والعربى على مدار 55 عاما من الحكم الإسرائيلى فى «المدينة الموحدة». نسبة الفقر فى المدينة فى سنة 2022 هى 43% من مجمل السكان، وهى أعلى بكثير من المعدل العام للفقر فى إسرائيل كلها ــ 21%. هذا بالإضافة إلى أن نسبة الذين يقع دخلهم تحت خط الفقر فى المجتمع اليهودى هى 32% ــ نصف نسبة الفقر فى المجتمع العربى، حيث النسبة هى 61%.
صحيح، اعترفت دولة إسرائيل بأن الفجوات فى البنى التحتية والاجتماعية والاقتصادية ما بين سكان شرقى القدس والسكان اليهود فى المدينة، هى السبب وراء حالة العداء لدى سكان المدينة الفلسطينيين. ولهذا إسقاطاته على الوضع الأمنى. لذلك، تم فى مايو 2015 تفعيل خطة حكومية لسدّ الفجوات، تكلفتها نحو 2 مليار شيكل. لكن بعد عام من تفعيل الخطة، أشار تقرير مراقب الدولة إلى أنه على المؤسسات المعنية الإسرائيلية العمل بشكل طارئ، بهدف تحسين الظروف الاجتماعية ــ الاقتصادية لسكان شرقى القدس، وتخصيص الموارد اللازمة لذلك.
هناك قضية مركزية فى القدس، ستشكل أيضا عامل توتُّر فى واقع «الدولة الواحدة»، هى الصراع على المقدسات الإسلامية. الشبان العرب طوروا هوية ورسالة تحت عنوان «حماة الأقصى». من الصعب جدا تخيُّل وضع سيوافق فيه العرب والمسلمون على صلاة اليهود داخل الحرم ودخولهم الجماعى إليه. منطقة المسجد الأقصى ممتلئة بالوقود، ويمكنها أن تشتعل كل يوم، وبصورة خاصة فى فترات أعياد الطائفتين الدينيتين.
القدس هى التجسيد والنموذج لنمط الحياة بين العرب واليهود فى مساحة مشتركة. الاحتكاك بين المجتمعين موجود يوميا. ففى الوقت الذى يتدفق الجمهور العربى إلى المراكز الطبية، والتجارية والمشتريات فى غربى المدينة، يبتعد الجمهور اليهودى عن كل الأحياء فى شرقى القدس، باستثناء البلدة القديمة.
• • •
الذين يفضلون الحفاظ على الوضع القائم ــ إدارة الصراع، حتى لو كان معنى ذلك الانجرار إلى واقع «دولة واحدة»، أكثر من خطوات جذرية، كالانفصال السياسى والجغرافى والديموغرافى عن الشعب الفلسطيني ــ يغمضون عيونهم عن رؤية أنه لا يمكن تخطّى الكراهية المتبادلة، والتجسير بين التوترات الإثنية ــ القومية والدينية العميقة، كما أنه لا يمكن أن يتم إرغام الفلسطينيين على ترك طموحهم القديم إلى حكم ذاتى.
المجتمع فى إسرائيل يتخوف من الموضوع الأمنى ولا يرى أيّ بدائل من الوضع القائم. لا يشعر بتهديد آنى ومحسوس فى مسار الانجراف إلى واقع «الدولة الواحدة»، ولذلك، لا يقوم بتفعيل ضغط على القيادة السياسية لتغيير المسار. النظام السياسى الإسرائيلى منشغل بقضايا الساعة ولا يرى المستقبل، ويتجاهل أنه يجب بناء طريق تمنع الانجراف إلى واقع لا تريده أغلبية المجتمع الإسرائيلى.
باحثان
مركز دراسات الأمن القومى
مؤسسة الدراسات الفلسطينية