(1) مصر.. لو كنت مستشارًا للرئيس
سأسمح لنفسى لأكون مستشارا لرئيس الجمهورية لمدة ساعة من نهار وأتخيل أننى أشغل هذا الموقع وقت وقوع الاعتداء الإرهابى على كنيسة القديسين.. كنت سأقترح على سيادته أن يتوجه بنفسه إلى موقع الحادث كما فعل عند حدوث الاعتداء على السائحين بالأقصر، ويكون فى صحبته رئيس الوزراء ووزير الداخلية، ووزير العدل مع النائب العام وجميع قيادات الأجهزة الأمنية وكبار المسئولين ذوى الصلة بالموضوع، ويجرى حوارا معهم على الهواء ويسأل الأسئلة التى يسألها الناس.. وأن تشكل لجنة عليا على الفور لبحث أوجه القصور الأمنى والمعلوماتى التى أدت إلى تخطيط وتدبير وتنفيذ هذا الحادث الرهيب بعيدا عن عيون الأمن، وأن يشارك سيادته فى تشييع جنازة الضحايا.. التى يجب أن تنطلق من موقع الحادث.
فأرجو أن نلبى جميعا نداء الوطن الجريح قبل فوات الأوان، بفتح ملف الأقباط فى مصر بلا مواربة وبدون الكلام الأجوف الذى أصبح يثير النفوس أكثر مما يهدئها.. ونشكل لجنة عليا برئاسة السيد رئيس الجمهورية لمناقشة سريعة وصريحة وشاملة.. وأقول سريعة لأن الحلول موجودة وقابعة فى الأدراج ولا تتطلب إلا اتخاذ القرارات الحاسمة بشأنها.
أما لماذا هى قابعة فى الأدراج.. فإن ذلك يقودنا إلى «أم المشاكل».. وهى النظرة الأمنية التى أصبحت تعالج من خلالها جميع المشاكل والتى أصبحت تعوق الرؤية الواضحة أحيانا، فهى تحذر من اتخاذ القرارات الحاسمة بدعوى تأثيرها على الأمن الداخلى وتجسم من ردود الأفعال المحتملة.. مما يجعل صانع القرار يحجم عن اتخاذ القرار ويكون التأجيل هو الملاذ الآمن.. واعتقادى أن هذه النظرة هى المسئولة إلى حد كبير عن عدم اتخاذ القرارات الحاسمة فى مطالب الأقباط.. وهى التى تستبعد تعيينهم فى المناصب الحساسة وهى التى تعطل صدور القانون الموحد لبناء المعابد.. وهى التى تعوق عودة النوبيين إلى قراهم حيث لا تطمئن لوجودهم على حدود مصر الجنوبية وبجوار السد العالى.
فيا أيها الأمنيون.. ألا تتخذون درسا مما حدث فى السودان.. أم تريدون الانتظار حتى اللحظة الأخيرة كما فعل البشير الذى سارع يعرض فى ليلة الانفصال من الحلول التى لو كان عرضها قبل ربع قرن لما كانت هناك حرب ولا دمار ولا قطيعة.
إن هذه النظرة الأمنية الاستبعادية الشكوكة.. ليست وليدة اليوم.. فقد بدأت مع قيام الثورة وإسدال الستار على العصر الجميل الذى كانت ذروة سنامه هى ثورة 1919 التى هب فيها المصريون أقباطا ومسلمين ضد المحتل.. ورفض فيه الأقباط محاولات استمالتهم لجانب المحتل الذى حاول ذلك استنادا إلى وحدة الدين..
ولكن تلك أمة قد خلت وذبلت بعد ستين عاما من القمع والإقصاء.. وقد تداعى إلى ذاكرتى الآن شيئ حدث منذ خسمين عاما عندما بدأت العمل بوزارة الخارجية عام 1960 إبان الوحدة مع سوريا، فقد لاحظت عدم وجود سوريين فى إدارات بعينها وهى إدارات الأمن والرمز والمعلومات.. وكان الهمس يدور إلى أن ذلك يعود لأسباب أمنية.. وكان من الطبيعى أن يكون مآل مثل هذه الوحدة إلى زوال.. سلام قولا من رب رحيم.. فاعتبروا يا أولى الألباب.
(2) السودان.. السيناريو الأكثر احتمالاً
فى رأيى أن أهم أحداث عام 2011 بالنسبة لمصر وللمنطقة هو انفصال جنوب السودان.. وهو حادث لا محالة بعد أيام قلائل حيث بدأ استفتاء الجنوب يوم 9 يناير 2011.. وهذا الاستفتاء هو لإضفاء الشكل الرسمى لانفصال الجنوب.. أما الانفصال نفسه فقد تقرر قبل ذلك بكثير وتم العمل الدءوب له منذ أمد بعيد، بينما نحن فى مصر فى غفلة.. أو قل لا مبالاة عجيبة.. فقد تركنا الأمر لمنظمة الايجاد والولايات المتحدة والدول الغربية وكأنه يحدث فى قارة نائية ليس لنا فيها مصالح حيوية بل حياتية تتعلق فعلا بالحياة أو الموت.
ولقد قضى الأمر وستدير دولة جنوب السودان أو الاسم الجديد الذى ستحمله ظهرها للشمال وتلتفت إلى الجنوب والشرق.. وستلغى اللغة العربية كوسيلة للتعليم وستوثق علاقاتها بإسرائيل كأشد ما تكون العلاقات وثوقا.
ويقال إن وزارة خارجيتنا بدأت هذا الأسبوع بدراسة السيناريوهات المحتملة وهى دراسة جاءت متأخرة عشر سنوات على الأقل.
فانفصال الجنوب لم يفاجئ أحد بما فى ذلك حكومة السودان الحالية.. وأذكر فى هذا الصدد لقاء شاركت فيه فى عام 1995 أى منذ خمسة عشر عاما وذلك عندما حضر السيد على عثمان طه وزير خارجية السودان فى ذلك الوقت ونائب الرئيس السودانى حاليا إلى باندونج فى ذلك العام للمشاركة فى الاحتفال بمرور 40 عاما على تأسيس حركة عدم الانحياز ودار حديث بينه وبين السيد عمرو موسى وزير خارجيتنا فى ذلك الوقت قال خلاله السيد/ طه بوضوح إن الجنوب سينفصل لا محالة والمسألة مسألة وقت.. كان ذلك منذ خمسة عشر عاما.
والآن وقد وقعت الواقعة فما هى السيناريوهات المتوقعة.. فى اعتقادى أن السيناريو الأكثر احتمالا هو سيناريو الخلاف بين دولتى الشمال والجنوب.. ليس فقط حول منطقة أبيى ولكن حول العديد من خطوط التماس التى ينتقل بينها الرعاة شمالا وجنوبا.. وحول رغبة الحركة الشعبية لتحرير السودان فى استمرار وجودها فى الشمال كحزب سياسى حيث إن هذه الحركة وقد أسكرها النجاح الذى حققته بفصل الجنوب لن تهدأ حتى تكرر ذلك فى دارفور وشرق السودان.. بل إنها تتحدث منذ الآن عن التعددية فى شمال السودان نفسه.. سواء من ناحية العرق أو اللغة وتدعى أن اللغة العربية لغة وافدة.
وفى المقابل، فإن حكومة البشير تسير فى الاتجاه المعاكس وتكرر نفس السياسة الفاشلة التى اتبعتها مع الجنوب وتعلن اعتزامها تطبيق الشريعة الإسلامية فور انفصال الجنوب بالرغم من وجود مالا يقل عن 800 ألف جنوبى معظمهم آثروا البقاء فى الشمال.. فضلا عن أعداد أخرى كبيرة من أقباط الشمال.. وترفض الاعتراف بتعدد الأعراق فى الشمال (قبائل دارفور الأفريقية هى امتداد لقبائل تشاد).
فالحركة الشعبية تصر على أن يستمر وجودها كحزب سياسى فى الشمال حتى بعد الانفصال بزعم أنها حزب ذو أفكار وأيديولوجية معينة تقوم على اعتماد مبادئ التعددية والمواطنة والديمقراطية وهى تهدف إلى تحرير جميع مناطق السودان وأنها إذا نجحت فى تحقيق ذلك فى الشمال فقد يؤدى ذلك إلى إعادة الوحدة بين الشطرين.. وهى مصرة على ذلك وتنفى أن يكون ذلك تدخلا من دولة أجنبية (هى جنوب السودان) فى شئون دولة مجاورة (هى شمال السودان) وتضرب مثلا بحزب البعث العربى الاشتراكى الذى بدأ فى سوريا وكان له فروع فى عدة دول عربية وأيضا الإخوان المسلمين التى بدأت فى مصر ولها فروع فى عدة دول عربية.
إذن.. وفقا لهذه المعطيات فلا ننتظر انفصالا وديا.. وحدودا ناعمة، كما يطالب بعض العقلاء.
●●●●
أما الساحة الثالثة من ساحات النزاع وهى أخطرها جميعا فهى ساحة المياه.. وستبدأ المعركة فيها بين الشمال والجنوب حول اقتسام حصة السودان البالغ مقدارها 18 مليار متر مكعب بين الدولتين الجديدتين.. وقد يقال إن هذا الأمر لا يمس المصالح المصرية فهو شأن سودانى سودانى، ولكن اقتسام حصة السودان بين دولتين مع ازدياد المشروعات الزراعية فى الشمال حيث بدأت عدة دول خليجية فى شراء أراض شاسعة لاستثمارها فى إنتاج الخضر والفاكهة والزيوت النباتية مما سيستهلك كميات كبيرة من حصة الشمال.. وقد يقود السودان الشمالى إلى منازعة مصر فى حصتها مقتربا من مواقف دول المنابع بعد أن كان موقفه متطابقا مع موقف مصر (دولتى المصب).
●●●●
وبالرغم من أننى لست ناصريا ولا استطيع أن أتسامح فى نكبة 1967.. ولكننى أقول الحمد لله على بناء السد العالى.. فلو أردنا أن نبنى السد العالى الآن لما استطعنا إلى ذلك سبيلا.. لأن السد العالى لم يبن بالمال والسواعد والتكنولوجيا الهندسية فقط، ولكن قبل ذلك كله بالسياسات.. فهذا هو أضخم مشروع مائى أقيم على نهر النيل ولم تعترض دولة أفريقية واحدة من دول المنابع والممر فى ذلك الوقت باستثناء إمبراطور إثيوبيا الذى حاول مقاومة المشروع ثم سرعان ما استسلم وجاء إلى القاهرة وأعلن تأييده.. كان ذلك وقت أن كانت مصر اسما مدويا فى أفريقيا تدين لها شعوب القارة بالولاء والامتنان والاحترام والإعجاب والمودة.
على أى حال.. وأيا كانت السيناريوهات التى تدرسها وزارة الخارجية.. فيجب أن تقود مصر تحركا دوليا لتنشيط المشروعات المائية فى جنوب السودان وتعظيم الاستفادة من المياه المهدرة فى النيل الأبيض وإعادة تنشيط المشروعات التى توقفت بسبب الحرب.. أى زيادة الموارد المائية بدلا من النزاع حول اقتسامها